الخطاب الديني … والمشاعر!

الدين رغما عن اختلاف مناظير الناس إليه من كل الزوايا تقريباً!
سواء تصورهم له أو دوره في حياتهم وهل هم في حاجة إليه أصلاً! أو كيفية تطبيقه وإلى أي حد ينبغي تطبيقه ومتى يمكن للإنسان أن يتجاوز حرفية تعاليمه … الخ

إلا أن كل “العوام” في العالم –ونغض الطرف عن دارسي الدين الذين أصبحوا يتعاملون مع الدين كأنه علم ويقدمونه للناس كمجموعة من العلوم, فنزعوا روحه وحولوه إلى مادة جافة غير مؤثرة ولا مثمرة!- مهما اختلفت أديانهم يجمعون على أن الدين مكانه القلب .. فهو يخاطب القلب ويعمل على إصلاحه ومداواته وتقويته .. الخ.

فالناس ترى أن الدين دوره أن يحرك القلب وأن يثير المشاعر, بغض النظر عن انسجامه مع العقل أم لا, فإن وافق العقل فبها ونعمت, وإن لم يوافقه فيتم تحييد العقل, ولكن ليس بشكل كلي, وإنما في المسألة الدينية فقط ويُعمل في باقي الجوانب الحياتية.

فيرضى الإنسان ويقنع بالتنازل عن عقله من أجل التواصل مع ربه ومن أجل إرضاء ربه! كما يفعل أي إنسان مع حبيبه
فلا مجال هناك لإعمال العقل, وإنما القلب هو من يأمر وينهى ويُحرك ويُسكن! وكذلك من أجل أن يشعر بإنسانيته! فالإنسان لا يشعر بها عندما يفلح في حل لغز رياضي معقد أو التوصل إلى حل معضلة فلسفية معقدة!

وإنما يشعر بها عندما ينبض قلبه بمشاعر مثل حب الآخرين وإيثارهم وتقديمهم على نفسه, عندما يشعر بأخوته لمن حوله بانتمائه للمجتمع حوله, عندما يشعر بالرضا والطمأنينة إذ يرى السعادة في عيون المحتاجين الذين مد لهم يد العون! عندما يستطيع التغلب على كبره ويتواضع لمن حوله … وغير ذلك من المشاعر الجميلة.


ففي الدين يواصل الإنسان لعب دور “الابن المطيع”, ولكن هذه المرة ليس مع أبيه, وإنما مع ربه .. مما يحقق له الرضا عن نفسه والطمأنينة على أنه على الطريق الصحيح. ولهذا ولغيره سيظل الدين –مهما اختلفت أشكاله- باقياً مسيطرا!

الشاهد أنه من المفترض أن الدين يحرك المشاعر “الصالحة/ الإيجابية/ الحسنة” عند الناس, والتي لا تقتصر ثمرتها على مجرد مشاعر جميلة يستعذبها الإنسان ويطلبها مراراً وتكراراً, وإنما تتعدى إلى انتاج إنسان صالح, كان للدين دور رئيس في تكوين كيانه وذاته.

فإذا انتقلنا من الحديث عن الدين بشكل عامٍ تنظيري إلى الحديث عن الإسلام بشكل خاص, لنتساءل:
أي مشاعر حرك “الخطاب الديني الإسلامي” –وليس الإسلام-؟

الناظر في الخطاب الديني الإسلامي يجد أنه –في الأعم الغالب- وبكل أسف يُهمش كثير من “المشاعر الإنسانية” لصالح أخرى قليلة محدودة, ذُكرت في النصوص الدينية, بدلاً من أن يعمل على تزكيتها بشكلٍ متوازن للوصول إلى إنسان صالح, فينظر إلى النصيب الأكبر منها بعين الاتهام أو يغض الطرف عنها أصلاً كأنها غير موجودة أو ليست ذات أثر كبير في إصلاح الإنسان!

فمشاعر مثل الحب أو الاستقلالية أو تحقيق الذات ليست مما يُقدم في الخطاب الديني الإسلامي, وبالتأكيد فإن حديثاً عن “الأنوثة” هو درب من دروب الانحلال! وإن كان هناك حديث عن الحب, فهو الحديث عن حب الله, وعن حب الوالدين وعن حب الأهل والأقارب …

أما كيف يتعامل الإنسان/ الشاب مع ذلك الشعور ومع غيره من المشاعر التي يجدها في نفسه؟ فغالباً لا يجد ناصحا يُعرفه ما المقبول منها ومتى يكون جيداً ومتى ينقلب ضاراً مؤذيا! إلى أي حد مثلاً يمكن تقبل “حب الذات” كدافع ومحرك وحامٍ للإنسان ومتى ينقلب إلى “أنانية”؟ وغير ذلك كثير!!

ورغماً عن وجود كثير حديث عن عدد من المشاعر الإنسانية الإيجابية في الخطاب الديني الإسلامي, مثل الإيثار والصبر والطمأنينة .. الخ, إلا أنها شابها الخلل فلم تُقدم في يوم من الأيام بشكل متوازن وإنما طغى بعضها على بعض, فمثلا كان لشعور “الحزن أو الندم” مكانة مقدمة في “بناء المشاعر” الإسلامي

وهذا ما نراه في “الأناشيد الإسلامية”, والتي يغلب عليها الطبع الحزائني! وكذلك “الطبع الحماسي” والذي يظهر في “الأناشيد الجهادية”!

إلا أن أياً من هذه المشاعر لم يشكل الإطار العام للخطاب الديني الإسلامي, وإنما قام بالدرجة الأولى على:
الترغيب والترهيب!!
فتقبل علماء المسلمين الروايات الضعيفة وشديدة الضعف في الترغيب والترهيب, رغماً عن أنها كذب على الله, لظنهم أنها مما سيصلح المسلمين!!

فإن أنت نظرت إلى عورة المرأة سيُصب في عينك الرصاص المغلي في يوم القيامة وإن أنت أكلت درهم من الربا فحرمته أشد من 36 زنية! ولك أن تتخيل أنت العقاب! وإن أنت فعلت كذا عقابك كذا وكذا! (ورواية مثل رواية الإسراء والمعراج المكذوبة على ابن عباس فيها نماذج لتفنن الرواة في ابتكار أصناف من العذاب)

وإن أنت بنيت مسجداً صغيراً لله كان لك من الثواب كذا, وإن أنت ذكرت الله بذكر معين كان لك ملايين الحسنات! ومثل ذلكما كثير!

ولإعجاب الوعاظ بالمحتوى المقدم فيها قاموا بنشرها بين المسلمين. ولم ينتبه الخطباء والوعاظ إلى معنى فعلهم هذا ولا إلى النتيجة الكارثية له! فعندما عملوا على إثارة مشاعر كان الشعور المثار هو: الخوف, والخوف ليس شعوراً جيداً بحالٍ من الأحوال! ولكن لا بأس ليتمسك المسلمون بتعاليم ربهم ولعدم قرب الذنوب والمعاصي!!

وكان كذلك الشعور المصاحب هو: الطمع, إذ أصبح كثيرٌ من المسلمين يأتون الأعمال الصالحة “طمعاً” في الثواب الكبير! (ولهذا اختلت أعمال المسلمين في الأعم الغالب, فأصبحت انتقائية بدرجة كبيرة, يقبل فيها المسلم على الأعمال الصغيرة اليسيرة التي يجني بها الكثير من النقاط “الحسنات”).

فلم ينتبهوا أولا إلى أنهم بذلك لا يخرجون إنسانا صالحاً يأتي الأعمال الصالحة أولاً لأنها صالحة في ذاتها ويتجنب الطالحة لأنها طالحة في ذاتها, مبتغياً بذلك وجه الله, إنسان ميزانه ذاتي للأمور ولنفسه وللآخرين, يُقدر صلاح الأعمال وطلاحها, نفعها وضرها, فيأتي الأكثر نفعاً ويجتنب الأكثر أذى!

وإنما إنسان نفعي يحرص على الوصول إلى تجميع أكبر قدر من النقاط!! ليس لديه ميزان أصلاً, فهناك أمور صغيرة في نظره كبيرة, وأخرى عظيمة يراها “تافهة”!

كما لم ينتبهوا إلى أنهم قد نفروا كثيراً من أتباع الدين منه! إذ وصل الخوف بالبعض إلى أن يعرضوا عن الدين من بابه, ورأى آخرون لا منطقية في هذا الدين, إذ يعاقب “ربه” بالعقاب الهائل على الأمر اليسير ويجازي الجزاء الكبير على الأفعال الهينة! ولا يعني هذا أننا نلغي “التخويف والترغيب” من الدين, ولكن التخويف دوره أن يكون حاجزاً تالياً بعد “القناعة القلبية”,

فعندما يكون الإنسان مقتنعاً بأن الزنا فاحشة ورغما عن ذلك قد يجول في خاطره فعل الفاحشة لاستحواذ الشهوة عليه, فهنا يأتي الخوف كمانع متأخر يحجمه ويوقفه! كما ينبغي أن يكون التخويف والترغيب بالقدر السليم حتى لا يختل الميزان عند المسلمين, فلا يصل التخويف إلى درجة الهلع, ولا يتوعد بالعظائم على الصغائر!!

ولو قدموا خطاباً “متغيراً” قائماً على مخاطبة المشاعر, باعتبار أن هذه المشاعر هي وسيلة تفاعل الإنسان مع واقعه المحيط, وباعتبارها “ظهورات” للاحتياجات الفطرية, التي غرسها الله في كلٍ منا, والتي تظهر “بأجل مسمى” تبعاً للنمو الجسدي والعمري للإنسان

فاحتياجات الطفل –ومن ثم مشاعره- غير احتياجات ومشاعر الصبي غير احتياجات ومشاعر البالغ غير حديث الرجولة غير الكهل غير الشيخ, واحتياجات الذكر عامة غير احتياجات الأنثى, فليس الذكر كالأنثى! ولنا في الرسول الأعظم القدوة الحسنة, فالروايات عنه فائضة بتقديم هذا المعنى, كم كان يراعي مشاعر الناس بل وحتى الحيوانات, كما رأيناه يأمر الصحابة برد الأفراخ الصغيرة إلى الحمرة/ الحمامة, ويقول: من فجع هذه في أبناءها!

والأمثلة على هذه النقطة بالمئات إن لم تبلغ الآلاف! كيف كان الصحابة يتصرفون .. وكيف كان الرسول يتصرف بشكل مختلف تماماً .. آخذا في حسبانه اعتبارات لم يكن الصحابة يلتفتون إليها .. وللأسف لم نلتفت نحن كذلك بدرجة كبيرة إليها!!!

لو قُدم مثل هذا الخطاب للاقى نجاحا مبهرا, ولاختلفت درجة إقبال الناس على الدين بدرجة كبيرة, لشعورهم أن الدين يخاطبهم و “يعالج” ذواتهم وأنه لهم نافع, وأن رب الدين مهتم بهم, وأن الدين ليس مجرد تقديسات وتعظيمات لله … وإنما هو هدى وصلاح للإنسان!

ومن ثم فلا ينبغي –ولا يجوز- أن يُقدم خطاب ديني عام جامد لكل المسلمين, يخاطب به الصغار كما يخاطب به الكبار, والرجال كما النساء, إلا في أضيق النطاقات وفي أبواب العمومات, وما عدا ذلك فينبغي أن يكون الخطاب الديني خاصاً, محدداً للفئة العمرية وللنوع الجنسي الذي يخاطب به, فإن لم يكن بهذا الشكل فلن يجتمع فيه عنصراه الرئيسان: “الحكمة والموعظة الحسنة”, ومن ثم فلن يؤتي ثماره!

فهل يعي القائمون على الخطاب الديني أن كل ما قدموه –بغض النظر عن موافقتنا على محتواه من عدمه- لم يخاطب في الإنسان إلا أقل القليل, وأنه لا يزال هناك الكثير من “الاحتياجات” والمشاعر الإنسانية بحاجة إلى “مخاطبة تهذيبية”؟ أم سيظلون متمسكين باجترار نتاج السابقين؟!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

مناقشة كتاب عقائد الإسلاميين جزء ٢

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.