مقام العبودية ومقام الربوبية في الحكم على العصاة

بين حين وآخر تحدث حادثة انتحار أو موت لشخص غير مسلم, ويُقدر أن يثور الجدل بين من يترحمون عليه وبين من يرفضون هذا الترحم ويرون أن الهالكين من أصحاب النار!

ويرون أن من يترحمون عليه هم مبتدعة, يأتون في دين الله بما لم يقل به ربنا وبما لا يرضى! وفي هذه السطور القلائل أحاول أن أتناول هذه المسألة من منظور “صوفي أخلاقي”, لأبين كيف أن بعض المسلمين في بعض الأحيان لا يتأدبون على الله فيتجاوزون مقامهم, مقام العبد إلى مقام الرب أو المتحدث باسمه, فأبدأ بالقول:

أسلم بأن هناك نسبة لا بأس بها من المترحمين لا يعلمون ما هو التفصيل ولا التأصيل “الشرعي” في هذه المسألة, وأنهم ينطلقون من منطلقات إنسانية “عامة”, مثل التسامح والتراحم وتقبل الآخر .. الخ, ولكن هناك من يفعلون هذا عن نظر في كتاب الله وعن مراعاة لمقام العبودية, و إنما الأعمال بالنيات!.

نٌذكر بأن الرب غفور رحيم وأنه كذلك شديد العقاب, فالله سيدخل فريقا من خلقه الجنة, وسيدخل فريقاً آخر الجنة, فرحمته سبقت غضبه .. ولكن هناك: عذاب, ويقينا فإن رجاء الرحمة, المغفرة هي للعصاة وخاصة أصحاب الكبائر منهم.

في القرآن يتحدث الرب القدير مخاطباً الرسول والمؤمنين (والناس), ومن المفترض أن يكون المؤمن في فريق: الرسول والمؤمنين, وليس “الرب”! فالله عليم يعلم ما في الصدور ومن ثم فله أن يحكم على أشخاص بأعينهم من خلقه بأنهم كاذبون ومفسدون وبأنهم من أهل النار, وعلى غيرهم بأنهم صالحون وأنهم مرضي عنهم .. الخ!

بينما ليس للمسلم هذا, وللأسف نجد كثيرا من المشائخ –والعوام تبعاً لهم- يأخذون في إصدار الأحكام على أفراد بعينهم بأنهم كذا وكذا, رغما عن أنهم يعرفون ويؤمنون بتلك الأحاديث التي تدور حول عدم جواز التألي على الله بأن فلانا لن يدخل الجنة أو فلان في الجنة (ولي في هذه المسألة مقال بعنوان: الخطاب الإسلامي الإلهي).

الرسول كان يبخس نفسه حزنا على عدم إيمان المشركين! فهل تحزن على هلاك “المشركين” غير المحاربين! الذين لم يعرفوا بالإسلام إلا معرفة سطحية أم أن الأمر لا يعنيك؟ اعتقد أن الغالب أن الأمر لا يعنيك!!
فهذه الإنسانة المنتحرة مثلا لا أعرفها .. فلماذا أشغل نفسي بتتبع تاريخها وماذا فعلت؟ وسل نفسك: هل تهتم لكل شخص يموت؟! ما أكثر من يموت ولا يحرك لنا ساكنا؟ قد يرى كثيرون أن هذا دفاعاً عن الدين؟! فأقول: وهل يكون الدفاع عن الدين بذم الأفراد أم بنقد الأفكار؟
فكم من أولئك شغلوا أنفسهم بالرد على “الأفكار” المخالفة للدين أو للدعوة إلى الدين؟! والسؤال هنا:

هل يكره أعم المسلمين الباطل؟! يعني هل تكره أنت –كرجل- مثلاً “الزنا”؟ هل تستقبحه؟ هل تكره الظلم؟ هل تستقبحه؟
اعتقد ان الإجابة في الغالب: لا, أنت نعم تقر أنه كبيرة! ولكن لا أعتقد أن لديك إشكالا كبيرا في تخيل نفسك تفعله مع امرأة ما عندما تستمني! ولا اعتقد أن لديك إشكالا في مشاهدة أفلام جنسية –في حالة فوران الشهوة-, فلا أراك تستقبح استغلال المرأة واجبارها على مثل هذا الفعل القبيح! وتدمير فطرتها … الخ!

كلنا نقر بأن الشرع فرق بين المعصية والعصاة, فوضع عقوبات لبعض الأفعال, إلا أنه دعا في عين الوقت إلى التسامح مع أصحابها وإلى أن يغفر الإنسان لهم, فدعاك إلى أن تعفو عمن ظلمك واعتدى عليك وجعل هذا خيرا من أن تأخذ الحق لنفسك! وهو في عين الوقت لم يلزمك بهذا التسامح فلك الأخذ بالحق! ولكن العفو والصفح أفضل بلا خلاف!
وإذا كان الشرع قد طالب من وقع عليه الضر بأن يعفو عمن آذاه وظلمه, أفلا ينبغي أن يكون هذا هو موقف من كان بالجرم مجرد سامع, ولم يصبه منه شيء! أن يعفو!
هل أنت من العاصين –مثلي- أم أنك ممن لا يأتون المعاصي؟! وهل ترجو رحمة ربك وتخشى عذابه أم أنك من “المقنطرين” الفائزين المبشرين بالجنة؟! وأنت كعاص ترجو هذه الرحمة لغيرك أم ترجوها لنفسك فقط؟
وإذا أتيت بذنب هل ترغب في أن يُصفع عنك أم يُنزل بك العذاب؟ لا أحد يحب العذاب أو العقاب, والعقاب في الشرع “مفسدة” –صغيرة- كما قال علماء الأصول, ولكنها لجلب منافع! من صلاح حال المجتمعات وأمن الناس .. الخ!

الإنسان قد يكون “ضالا” أي أنه طلب الحق ولم يدركه, وقد يكون مُضلا, بأن أتى من الأفعال ما استحق معه أن يضله الله, وليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه,
ونحن لا نعلم في أي الحالين كان الميت/ المنتحر, ومن ثم نرجو أن يكون من الصنف الأول! ولنتذكر جميعاً أن المنتحر ضاقت به الأرض بما رحبت وأصبح الموت أهون عليه من الحياة!! ناهيك عن أنه ثمة فارق كبير بين المعتدي على غيره وبين الظالم لنفسه! وبين الشاب والكهل! وأنه ليس كل عاص عدو لله!

لو أن لك أخا/ ابنا/ أختا عاص يأتي الكبائر, ومات وهو عاص,
هل سترجو له الرحمة أم لن ترجوها؟! وهل ستحزن عليه أم؟! هل ستدعو الله له أم لا؟!
وكذلك يفعل الناس لأقاربهم وأحبائهم. سيقول قائل: ما من مشكلة في الاستغفار للعصاة, أما “المشركين/ الكفار” فلا, فالله قال أنه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
, وقال: “مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة : 113]”

فنقول: أولاً
: الاسترحام ليس كالاستغفار! فالرحمة قد تكون عطاءً, فالمطر في كتاب الله رحمة, والرسول نفسه كان من رحمة الله بالكافرين, فهو أرسل لمشركين وكافرين ولم يُرسل لمؤمنين! والرحمة قد تكون تخفيفاً للعذاب! وقد وقد! ناهيك عن أن هذه مجرد مقولة, ويمكن أن تُدرج تحت: وقولوا للناس حسنا! فهل مقولة الأمهات الشهيرة –في معرض الحديث-: ربنا يهديه! دعاء أم أنها مجرد رجاء؟!

ثانياً:
بغض النظر عن أن الآية وردت بصيغة “ما كان ل” وهي لا تعني: لا يجوز! بغض النظر, فالآية لم تطلق الحكم وإنما قالت: من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم! ومن ثم فإذا كان للإنسان تأولٌ في المسألة, يجعله لا يرى أنه من أصحاب الجحيم, بأن يرى أن المنتحر/ الميت ممن لم يصلهم الإسلام بصورة سليمة, أو أنه كان مريضا نفسيا أو أي تأول, فله أن يستغفر له.

إذا فاعتراضنا عليهم هو أننا نقول بما يقول القرآن من أن الظالمين والمفسدين والكافرين –على العموم- في النار, أي أن إطلاق الأحكام على الأفعال وليس على الأشخاص! بمعنى أن من يفعل كذا يكون آتيا لكبيرة مثلاً … ولكننا لا نجزم بأن فلاناً بعينه في النار. ومن ثم فهذا لا يعني أننا نحب المعصية أو ندعو إليها أو إلى التسامح معها! وإنما نحاول ألا نضع البيض كله في سلة واحدة.

نهانا الله عن تزكية النفس فقال: فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى! ومن ثم فلا يعينني بأي حال إطلاق الأحكام على غيري سواء بكونهم في الجنة أو بكونهم في النار, وانشغالك بهذا يعني أنك متجاوز لمقامك. لذا فتذكر أنه لم يطالبك أحد برأيك في حق فلان أو علان! لا تريد أن تترحم لا تفعل! ولكن لا تكن في عين الوقت ممن يلعنونه!

في النهاية أنا مؤمن أن الله عليم رحيم, وأنه يعلم من يستحق العذاب ومن يستحق الرحمة! وأنا أترك هذه المسألة له, ولا أشغل بالي بموت فلان أو علان, اقراراً مني بأني عبد عاص أرجو الرحمة لنفسي ولغيري من خلق الله.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

في توالد المفردات في البدء كان “الاسم”

في مقالين سابقين تحدثت عن نشأة “التسمية”, أي كيف تم إعطاء دوال للمدلولات, فلم تعد …

تعليق واحد

  1. كلام سليم ورائع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.