سأل الأخ أبو إسلام عن العقيقة, فقال:
ما هو رأيك في موضع العقيقة وما جاء فيها من روايات خاصة ان هذه الروايات فيها اشكاليات منها
انه جاء في رواية انه يعق عن الانثى بذبيحة واحدة والذكر ذبيحتين
وفي رواية ان كل مولود مرتهن بعقيقته” اهـ
فنقول: بادئ ذي بدء ليس أية ثمة إشارة إلى العقيقة في القرآن, (وإن كان يمكن اعتبارها -باعتبارها “ذبحاً”- نسكا: “وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ [الحج : 34]”),
وكل ما جاء بشأنها ورد في روايات السنة, ويحرص أكثر المسلمين على ذبحها اقتداءً بسنة النبي في المسألة. وقبل أن نعرض لروايات السنة الواردة بشأن العقيقة نُعرف سريعا بأصلها اللغوي, فنقول:
العَقِيقة : الذبيحةُ التي تُذْبح عن الموْلود. وأصْل العَق : الشَّقُّ والقَطْع. وقيل للذبيحة عَقيقَة، لأنَّها يُشَق حَلْقُها.
وليست العقيقة مما جاء به الإسلام وإنما كانت عادة جاهلية موجودة قبل الإسلام,
ومع مجيء الإسلام اتخذ الرسول منها موقفا واحداً, إلا أن الناظر في الروايات الواردة في المسألة يجدها تأخذ اتجاهين متضادين, فنجد روايات تنسب إلى الرسول أنها أمر بها, مثل ما رواه البخاري في صحيحه:
حَدَّثَنَا سَلْمَانُ بْنُ عَامِرٍ الضَّبِّيُّ قَالَ
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى
وما جاء في السنن الكبرى للبيهقي
عن ايوب عن محمد عن رجل يقال له سلمان رفعه قال مع الغلام عقيقة فاهريقوا عنه الدم واميطوا عنه الاذى
وثمة روايات أخرى تؤكد هذا وتقول أن الرسول قام بالعق! مثل ما رواه عبد الرزاق في مصنفه:
حدثت حديثا رفع إلى عائشة أنها قالت : عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حسن شاتين ، وعن حسين شاتين ، ذبحهما يوم السابع ، قال : ومشقهما ، وأمر أن يماط عن رؤوسهما الاذى ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذبحوا على اسمه ، وقولوا : بسم الله اللهم لك وإليك ، هذه عقيقة فلان ، قال : وكان أهل الجاهلية يخضبون قطنة بدم العقيقة ، فإذا حلقوا الصبي وضعوها على رأسه ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوا مكان الدم خلوقا ، يعني مشقهما : وضع على رأسهما طين مشق ، مثل الخلوق.
وأخرى تزيد من أهمية العقيقة مثل ما رواه الترمذي مثلاً في سننه:
عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغُلَامُ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ يُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ وَيُسَمَّى وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ
واعتمد بعض الفقهاء –مثل الظاهرية- على هذه الرواية التي تبين عظيم قدر العقيقة في القول بأن العقيقة واجبة!
فالغلام مرتهن بالعقيقة فإن لم تُذبح العقيقة فس ….!!!
العجيب أن أكثر الذين يستدلون بهذه الرواية لا يفهمونها ولا يعلمون ما معنى أنه مرتهن بها! (وهي رواية كارثية!!) ولا يعني هذا أن الفقهاء لم يقدموا تفسيراً لهذه الجملة, فنجد البيهقي يروي في السنن الكبرى:
قلت لعطاء الخراساني ما مرتهن بعقيقة قال يحرم شفاعة ولده” اهـ
أي أنه مرتهن عن الشفاعة لهما إذا مات صغيرًا قبل أن يُعَقَّ عنه!
وفسره بعضهم بأنه مرتهن عن منفعة والديه وبرهما، فإذا لم يُعَقَّ عنه خيف أن يكون عاصيًا عاقًّا لهما! ” اهـ
وليس للحديث أي علاقة بالشفاعة!
فالعقيقة هي التي ستفعل للغلام شيئا وليس العكس! لذا نجد أن بعض العلماء قالوا: (مرتهن بعقيقته) يعني: أن العقيقة من أسباب انطلاق الطفل في مصالح دينه ودنياه، وانشراح صدره عند ذلك، وأنه إذا لم يعق عنه فإن هذا قد يحدث له حالة نفسية توجب أن يكون كالمرتهن، وهذا القول أقرب، وأن العقيقة من أسباب صلاح الولد، وانشراح صدره، ومضيه في أعماله.اهـ
إذا فالعقيقة كما رأينا تعتبر نوع من “التعاويذ” تحمي الطفل!! فإن لم يُعق عنه تلبست به الأرواح الشريرة وآذته الآلهة! وربما أدى به هذا الإيذاء إلى الموت!! (وهذا كان اعتقاد الجاهلية) بينما إذا ذُبح عنه دُفع عنه هذا الخوف واعتبر هذا فداءً له!
فهل يطالبنا الإسلام بهذا؟! وهل يصدق الرسول على هذا التصور الجاهلي؟!!
إن الغاية الأولى للإسلام تقول أن الرسول لا يمكن أن يقول بهذا لأنه يتعارض مع وحدانية الله بتصديقه على خرافات الجاهلية, ومن ثم فالروايات السابقة مستبعدة. ولله الحمد نجد الروايات الأخرى تقول أن الرسول لم يصدق على عادات الجاهلية وإنما كان له موقف مختلف تماما, فنجد مالك يروي في موطأه:
عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ
سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ لَا أُحِبُّ الْعُقُوقَ وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا كَرِهَ الْاسْمَ وَقَالَ مَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْ وَلَدِهِ فَلْيَفْعَلْ
(لاحظ أن تفسير رفض الرسول للعقيقة بالاسم هو من قول الصحابي أو أي راو في سلسلة الرواة وليس من الرسول نفسه! والشاهد أن الرسول لم يقبل بالعقيقة وإنما) قال أن من أراد (فالأمر على الإباحة!) أن ينسك! أي يذبح لله فليفعل! أي يذبح شكراً لله, وليس ذبحا للآلهة لتجنب ابنه الأضرار!
ويروي أبو داود في سننه رواية شبيهة إلا أنها تنسب عدم الحب إلى الله وليس إلى الرسول, فيقول:
عَنْ دَاوُدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ أُرَاهُ عَنْ جَدِّهِ قَالَ
سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْعُقُوقَ كَأَنَّهُ كَرِهَ الِاسْمَ وَقَالَ مَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْهُ فَلْيَنْسُكْ عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ
وكذلك النسائي:
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ
سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ لَا يُحِبُّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْعُقُوقَ وَكَأَنَّهُ كَرِهَ الِاسْمَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا نَسْأَلُكَ أَحَدُنَا يُولَدُ لَهُ قَالَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْ وَلَدِهِ فَلْيَنْسُكْ عَنْهُ عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ
فهذه روايات تقول أن الله أو رسوله لا يحبان العقوق, وأن من أراد أن يذبح شكرا فليفعل! ويؤكد هذا روايات تقول أن التابعين كانوا يعلمون بهذا, مثل ما رواه عبد الرزاق في مصنفه:
عبد الرزاق عن ابن عيينة قال : سمعت عطاء يقول : يعق عنه يوم سابعه ، فإن أخطأهم فأحب إلي أن يؤخروه إلى السابع الاخر ، قال : ورأيت الناس يتحرون بالعق عنه يوم سابعه ، قال :
يأكل أهل العقيقة ويهدونها ، قلت له : أسنة ؟ قال : قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، زعموا ، قلت : أتصدق ؟ قال : لا ، إن شئت كل وأهد ، …”
فكما رأينا فعطاء يعرف أن القول بأن العقيقة سنة مجرد زعم ويقول أنه لا يصدق هذا الزعم!
ولهذا وجدنا أن أبا حنيفة قال أنها ليست فرضا ولا سنة.
إذا فالعقيقة كما رأينا كانت عادة جاهلية شركية ولما سُئل عنها الرسول كرهها إلا أنه ارتأى أن يقدم للناس بديلا, فقدم لهم البديل وهو أن “ينسك” الناس لله! أي أن يذبحوا شكرا لله, إلا أن العادة بقيت باسمها وقال بها بعض الصحابة ورُفعت إلى الرسول حتى وجدنا من نسب إلى الرسول أنه أمر بها, بل ويزعم أنه قال أن الغلام مرتهن بالعقيقة!!
إذا فالذبح بعد ميلاد الغلام لا يمكن نعته بحال أنه سنة, وإنما هو مباح من المباحات من أراد أن يفعله فليفعل, والأولى والأصح أن يقال أنه: “نسك” وليس: عقيقة!
والله أعلى وأعلم.