الحسد

لأصل اللغوي لكلمة “ح س د” هو: القشر, والمعنى المشهور له هو: تمني زوال النعمة عن الغير, فكأن الحاسد يقشر المحسود.

وهو بهذا المعنى شعور يشعر به الإنسان مثل البغض والحقد والكراهية والضغناء, وهو بنفسه لا يضر ولا يؤثر في المحسود, -وإنما يؤذي الحاسد نفسه, فهو نار تأكل صاحبها ولا تهنئه بحياته- وقد يدفع الحسدُ الحاسد لإيصال الضرر إلى المحسود, فساعتها يكون الحسد ضارا.

إلا أن الشائع بين المسلمين أن الحسد له معنيان: ذلك المعنى الذي ذكرناه, ولا إشكال فيه, ومعنى آخر وهو أن الإنسان إذا أبغض آخر وحقد عليه وتمنى زوال النعمة عنه, يؤثر فيه بشكل من الأشكال, مما يسبب له ضررا نفسيا أو معنويا أو جسديا قد يصل إلى أن يقتله, وهذا التأثير مركزه العين.

وهذا التصور ليس ببدع من القول فلم يكن ظهوره مع الإسلام, وإنما هو تصور قديم يرجع إلى الحضارة السومرية في العراق –أو الفرعونية في مصر
ويقال أن الفراعنة هم أول من استخدموا الخرزة الزرقاء في دفع الحسد حيث اعتقدوا أن الحلي المصنوعة من الخرز الأزرق لها قوى وآثار سحرية تقي مقتنيها من السحر والحسد والأمراض, واللون الأزرق يرمز للإله رع وللخصوبة عند المصريين القدماء ويرتبط بزرقة السماء حيث مستقر الآلهة –حسب اعتقادهم-,

كما إستخدم المصريون القدماء الكف بأصابع اليد الخمسة للتبرك بها , كعلامة على التدين , وتمجيد لأول الأبناء البشريين , وهم خمسة , يتم الإحتفال بمولدهم نهاية كل عام (أوزير / ست /إيزيس / نفتيس / حور ور), ولا يزال المصريون يضعون الكف في سياراتهم وفي بيوتهم ويلطخون أيديهم بدماء الذبائح ويطبعونها على جدران البيوت حتى يحموا أنفسهم من الحسد.

ومن أشهر ما ارتداه المصريون القدماء كذلك لدفع الحسد “عين الإله حورس” (وهكذا تحارَب العين بعين … الإله!!!), ولا يقتصر ارتداء العيون على المصريين, فالأتراك يرتدونها وهناك “عين بوذا” في دول شرق آسيا … الخ الوسائل المختلفة لرد الحسد في مختلف أنحاء العالم.

ولم يكن العرب قبل الإسلام استثناءً فهم كذلك كانوا يؤمنون بالحسد, ويحاولون دفعه بوسائل مختلفة, والسؤال الذي يجب علينا طرحه الآن:
هل أتى الإسلام فصدق على هذه التصورات الموجودة عند الشعوب المختلفة, واكتفى باستبدال وسيلة الحماية من ذكر آلهتهم إلى ذكر الله وقراءة كتابه وتلاوة بعض الأدعية؟!
الناظر يجد أن عامة علماء المسلمين وعوامهم يجيبون بلا تردد: نعم, فالحسد موجود وديننا علمنا كيف نقي أنفسنا منه.

وبغض النظر عن انتشار هذا التصور في دول العالم المتقدمة والمتخلفة على حد سواء, وإيمان كثير من الناس به, فإنه يظل قولا عجيبا يخالف المعقول والمشاهد, ومن ثم فإن المنطق يدفع للتساؤل:
كيف يستطيع الإنسان أن يؤذي آخر بدون أي سبب مادي لذلك؟

ولقد حاول العلماء المسلمون, المؤمنون بالتصور الخرافي الأسطوري للحسد إيجاد تفسيري عقلي منطقي له, فقالوا بأقوال عجيبة عجب الحسد, فنجد الإمام ابن حجر العسقلاني مثلا يقول في فتح الباري: (10/200) :

” وقد أشكل ذلك على بعض الناس ، فقال : كيف تعمل العين من بُعْدٍ حتى يحصل الضرر للمعيون ؟!
والجواب : أن طبائع الناس تختلف ، فقد يكون ذلك من سم يصل من عين العائن في الهواء إلى بدن المعيون ، وقد نُقِلَ عن بعض مَنْ كان مِعْياناً أنه قال : إذا رأيت شيئاً يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني ، ويقرب ذلك بالمرأة الحائض تضع يدها في إناء اللبن فيفسد ، ولو وضعتها بعد طهرها لم يفسد ، وكذا تدخل البستان فتضر بكثير من الغروس من غير أن تمسها يدها ..

وقال المازري : زعم بعض الطبائعيين أن العائن ينبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد وهو كأصابة السم من نظر الأفاعي ..

وقد بالغ بن العربي في إنكاره ، قال : ذهبت الفلاسفة إلى أن الإصابة بالعين صادرة عن تأثير النفس بقوتها فيه فأول ما تؤثر في نفسها ثم تؤثر في غيرها ،

وقيل إنما هو سم في عين العائن يصيب بلفحه عند التحديق إليه كما يصيب لفح سم الأفعى من يتصل به ، ثم رد الأول بأنه لو كان كذلك لما تخلفت الإصابة في كل حال والواقع خلافه.

والثاني : بأن سم الأفعى جزء منها وكلها قاتل والعائن ليس يقتل منه شيء في قولهم إلا نظره ، وهو معنى خارج عن ذلك ، قال : والحق أن الله يخلق عند نظر العائن إليه وإعجابه به إذا شاء ما شاء من ألم أو هلكة وقد يصرفه قبل وقوعه إما بالاستعاذة أو بغيرها وقد يصرفه بعد وقوعه بالرقية أو بالاغتسال أو بغير ذلك” اهـ

ولست أدري أي أفاعي تلك التي يُسم أو يصاب الناظر إليها بمجرد النظر؟! أنا أعلم أن هناك أفاعي تنفث السم, أما أن تكون هناك أفاعي تضر بنظرها فهذا ما لا وجود له. ومن ثم فإذا كانت العين تخرج سما أو شعاعا فهو شيء مادي في نهاية المطاف وهو ما لا يخرج من العين!

وكما رأينا فلم يجد الإمام ابن حجر إلا أن ينسب ذلك إلى الله, فيقول أن الله يخلق عند الحسد ما يشاء من ألم وهلكة وقد يصرفه قبل وقوعه أو بعده!

وهذا يعني في نهاية المطاف أن الله هو من يؤذي عباده –وليس على الحاسد أي ذنب-, فالحسد على قولهم هو فعل لله وليس فعلاً لي, والإنسان يحاسب على ما فعله عمدا, وليس ما أنشأه الله عند فعل للبشر,

فهل إذا اشتهيت امرأة أيما اشتهاء بحيث أنه وصل إلى درجة الجنون حتى أني تمنيت أن أفعل بها الفاحشة هل سيحاسبني الله في هذه الحالة على أنني ارتكبت جريمة الزنا؟ وهل إذا خططت لقتل فلان وتربصت له في الطريق ثم في آخر لحظة تراجعت أو منعني مانع ولم أقتله هل سأحاسب على جريمة القتل؟!

بداهة لا يدان الإنسان إلا على ما فعله عمدا, أما أن أكره إنسانا فيضره الله ثم يحاسبني أنا على هذا الضرر, فهذا سوء ظن بالله وإساءة أدب معه؟ فلماذا يخلق الله لي ما يجسد شرور نفسي ولا يخلق ما يحقق أماني نفسي الخيرة ولا حتى شهواتها الحلال؟!!

ولست أدري هل هناك قاض في الدنيا يمكنه أن يحبس إنسانا لأنه حسد آخر؟! ليس ثمة دليل مادي ولا عقلي على هذا, وإنما هي مجرد معتقدات وأوهام راسخة في نفوسنا تدفعنا لاجتناب أعين الناس ولأخفاء نعمة الله علينا.

ولا يقتصر الأمر على الكره, بل يصل إلى أن يحسد الإنسان نفسه أو أهله أو ماله وذلك من شدة إعجابه بهم!!!! فهل يعطي لله الإنسان هذه القوة الخارقة العمياء التي لا يستطيع التحكم بها, فتنطلق منه هكذا عبثا, ولا تنطلق منه إلا للضرر, فلا تنطلق لنفع, فتقتل مثلاً من يحاول إيذاء صاحبها أو تزيحه على الأقل من طريقه؟!


إن الله تعالى لا يخلق الشر, وإنما يخلق الخير النافع والذي قد يسيء الإنسان استعماله فيستعمله في الشر, فما له خلق هذه القوة التي لا تتحرك من نفسها –أو لا يحركها هو- إلا للشر!! ثم يحاسب الإنسان عليها؟!!!

ولا يقتصر الأمر على هذا وإنما وضعت أحاديث تقول أن الإنسان يحسد وكذلك الجان يحسد الإنسان, ومن ذلك ما رواه النسائي في سننه:
“(أَخْبَرَنَا هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبَّادٌ عَنْ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَيْنِ الْجَانِّ وَعَيْنِ الْإِنْسِ فَلَمَّا نَزَلَتْ الْمُعَوِّذَتَانِ أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَى ذلك”
ولست أدري لماذا يحسد الجان الإنسان وماذا يفعل الإنسان تجاه قوى الشر المحيطة به في كل مكان!
وهناك من حاول أن يقدم تبريرا أكثر منطقية, فنجد أن الشيخ بن جبرين مثلا يقول : ( العين يتبعها شيطان من شياطين الجن فتؤثر في المعيون بإذن الله الكوني القدري ) .

وهكذا جعلوا السبب في التأثير هو شيطان يحقق شرور الإنسان (وهذا هو التصور اليهودي للحسد: شيطان الحسد!!!) وهكذا فإن هذا الشيطان الساكن أعلى العين يقرأ الرسائل المشفرة الخارجة من العين ومن ثم يعمل على تنفيذها وإيقاع الأذى بمن وُجهت هذه الرسائل –بدون قصد من الحاسد- ناحيته!!!!!

وهي مقولة لا يستحق الإنسان الرد عليها. إن النسبة الأكبر من الشعوب الغربية لا تلتفت إلى هذه الخرافات وتتعامل مع بعضها بعضا بكل صراحة لأنهم لا يخشون إلا الأذى المدبر من الإنسان! أما أن أخفي الطعام من جاري أو أكذب عليه في سؤاله عن سعر شيء اشتريته خوفا من عينه فهذا من عواقب الخوف من المجهول الذي لا دليل عليه! ولهذا وجدنا بعض من يتساءل: هل يصاب غير المسلم بالحسد؟!!

ولست أدري هل الحسد قدرة شريرة مميزة للمسلمين فقط أم ماذا؟ ولست أدري لماذا لم نر أحدا حسد الغرب الكافر!! على ما فيه من النعمة!! ولماذا لا ننشأ سلاحا ” للحُساد” في الجيش فإذا رأى أسلحة الجيش العدو فتك بها وأفسدها؟!!!


إن فكرة الحسد فكرة متهاوية لا تقوم عقلا ولا منطقا, على الرغم من محاولات بعض المسلمين إضفاء الصبغة العلمية عليها وجعل العلم مصدقا لما جاء الإسلام به!! (على الرغم من أن الإسلام ليس أول من تكلم عن الحسد وعلاجه وإنما هي خرافة قديمة اعتقدت بها أمم عديدة) بحديثهم عن نطاقات الطاقة الحيوية وما شابه كتعليل لكيفية حدوث الحسد أو العين.

والدليل الذي يستند إليه المتقبلون لهذه الفكرة هو فهمهم لنصوص من القرآن والسنة يستدلون بها على هذا التصور (المسيء لله سبحانه) ويرونها حجة كافية لتقبل هذه الفكرة, لذا نتوقف مع هذه النصوص لننظر ماذا تقول وهل فيها دليل قاطع لهم:

الناظر في كتاب الله يجد أن لا دليل فيه على هذا التصور الخرافي السائد والمنتشر بين المسلمين وإنما يستعملها تبعا للمعنى اللغوي المعروف: تمني زوال نعمة الغير, ولولا الروايات –التي أسيئ فهمها!!- لما انتشر هذا التصور.
فإذا نظرنا في المواطن التي ذُكر فيها الحسد, وجدنا أنها كلها بالمعنى المألوف, فالله تعالى يذكر كيف يود كثير من أهل الكتاب أن يرتد المؤمنون كفارا:

وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة : 109]
وفي الموطن الثاني يتساءل الله هل هم يملكون نصيبا من الملك أم يحسدون الناس على أن الله آتاهم النبوة والكتاب؟!
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً [النساء : 54]
وفي الموطن الثالث يقول الله للرسول أن المخلفين سيتهمونكم بأنكم تحسدونهم, فهم سيزعمون أنكم ترون أنهم أفضل منكم لذلك تحسدونهم:
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً [الفتح : 15]
أما الموطن الأخير, فهو الذي يُستدل به دوما على أن للحسد قوى خارقة قادرة على أن تضر الإنسان بل وتقتله, وذلك على الرغم من أن الله تعالى لم يزد عن أن قال:
“وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق : 5]”

فالآية تأمر بالاستعاذة من شر حاسد إذا حسد, ولاحظ أن الحديث عن شر الفاعل وليس عن شر الحسد, فلو كان قيل: ومن شر الحسد, كان من الممكن أن يكون الحديث عما يقولون, أما مع الحديث عن الفاعل فليس فيه مستند لهم.
ويدل على هذا الفهم ما رواه أبو داود في سننه:
“عَنَّ سَهْل بْن أَبِي أُمَامَةَ أن أنس بن مالك رضي الله عنه لما مرَّ بِدِيَارٍ بَادَ أَهْلُهَا وَانْقَضَوْا وَفَنُوا وهي خَاوِيَةٍ عَلَى عُرُوشِهَا َقَالَ: أَتَعْرِفُ هَذِهِ الدِّيَارَ؟ فَقُلْتُ مَا أَعْرَفَنِي بِهَا وَبِأَهْلِهَا؟ فقال: هَذِهِ دِيَارُ قَوْمٍ أَهْلَكَهُمْ الْبَغْيُ وَالْحَسَدُ إِنَّ الْحَسَدَ يُطْفِئُ نُورَ الْحَسَنَاتِ وَالْبَغْيُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ وَالْعَيْنُ تَزْنِي وَالْكَفُّ وَالْقَدَمُ وَالْجَسَدُ وَاللِّسَانُ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ)

فكما رأينا فأنس بن مالك أن العبرة ليست بالشعور وإنما محاولة الحاسد إيذاء من يحسد, ويؤكد هذا ما روي عن الحسن البصري:
“قيل للحسن: يا أبا سعيد، أيحسد المؤمن؟ قال: أنسيت إخوة يوسف؟ نعم، ولكن غمَّة في صدرك، فإنه لا يضرك ما لم تعد به يداً ولا لساناً.” اهـ
فليس القلق ولا الخوف من النظرة والشعور وإنما من سعيك لضر محسودك.

وليست هذه هي الآيات التي يستدلون بها فقط على الحسد, فهم يستدلون بآيات أخرى لم يُذكر فيها كلمة “حسد”, وهذه الآيات هي قوله تعالى:
“وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [القلم : 51]”

وليس في الآية مستند لما يقولون بل هي على فهمهم متناقضة, فهي تتحدث عن النظرات النارية التي كان يوجهها المشركون للرسول, والأسلوب المستخدم في الآية أسلوب معروف ولا يزال مستخدما حتى الآن في لغتنا الحديثة -بل وفي اللغات الأوروبية-, ومن ذلك قول القائل: لو كانت النظرات تقتل لتحول الرجل إلى مصفاة.

فالمتكلم جعل نظراته مثل طلقات الرصاص.
وهو الرأي الذي قال به أتباع المدرسة اللغوية, فنجد ابن منظور يقول في اللسان:
وقوله تعالى: وإِن يكادُ الذين كفروا لَيُزْلِقُونك بأَبصارهم؛
أَي ليُصِيبُونك بأَعينهم فيزِيلونك عن مقامك الذي جعله الله لك، قرأَ أَهل المدينة ليَزْلِقونك، بفتح الياء، من زَلَقْت وسائرُ القراء قرؤوها بضم الياء؛ الفراء: لَيُزْلِقونك أَي لَيَرْمون بك ويُزيلونك عن موضعك بأَبصارهم،

كما تقول كاد يَصْرَعُني شدَّةُ نظرهه وهو بيِّن من كلام العرب كثير؛ قال أَبو إِسحق: مذهب أَهل اللغة في مثل هذا أَن الكفار من شدةِ إِبْغاضِهم لك وعداوتهم يكادون بنظرهم إِليك نظر البُغَضاء أَن يصرعوك؛ يقال: نظر فلان إِليَّ نظراً كاد يأْكلني وكاد يَصْرَعُني، وقال القتيبي: أَراد أَنهم ينظرون إِليك إِذا قرأْت القرآن نظراً شديداً بالبغضاء يكاد يُسْقِطك؛ وأَنشد: يَتقارَضونَ، إِذا الْتَقَوْا في مَوْطِنٍ، نظراً يُزِيلُ مَواطِئَ الأَقْدامِ ” اهـ

وهو ما قاله الإمام الزمخشري في تفسيره: الكشاف قبله.
فالآية تقول أن المشركين يكادون يهلكون الرسول بأبصارهم لما سمعوا القرآن لضيقهم وغيظهم, ومن غير المقبول أن يحسد الإنسان من يأتيه بما لا يعجبه!! ناهيك عن كون الآية لا تستقيم مع قولهم: إنه لمجنون! فهل من المنطق أن أحسد إنسان وأقول عنه أنه مجنون في نفس الموقف!

كما يستدلون بقول سيدنا يعقوب لبنيه عندما كانوا ينوون العودة بأخيهم إلى مصر ليأخذوا حصتهم التموينية, حيث قال:
“وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف :67- 68]”

فقالوا أنه خاف عليهم الحسد فأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة! ولست أدري ألم يخش عليهم الحسد في المرة الأولى؟! إن الواضح من الآية أن سيدنا يعقوب كان يخشى أن ينزل بهم عقاب من الله, (فيحبسوا مثلا أو يٌأسروا) لذلك قال لهم: وما أغني عنكم من الله من شي, ولم يقل: أخشى عيون الناس! ولذلك أردفت الآية التالية مؤكدة أن هذا ما كان يغني عنهم من الله من شيء! فإذا حدث شيء يحدث للبعض ولا ينزل بالكل.

وآخر ما يستدلون به هو قول صاحب صاحب الجنتين: “وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً [الكهف : 41] [الكهف : 39-41]”

ولست أدري ما علاقة الآية بالحسد؟ إن الآيات تتحدث عن رجلين أحدهما مؤمن والآخر مشرك, والمؤمن ينصح المشرك المعجب بجنته والذي يظن أنها لن تبيد أبدا, ويظن أنه ليس ثمة ساعة قائمة, فالمؤمن ينصحه أنه إذا دخل جنته يذكر الله وينسب التصريف إليه, وينفيه عن الآلهة المزعومة, ويحذره أنه قد تهلك بسبب شركه ونسيانه اليوم الآخر, فما علاقة هذا بالحسد؟! فهل المؤمن ينصح الكافر أن يذكر الله حتى يبعد عن نفسه الحسد؟! أم أنه يدعوه للإيمان حتى يجنب نفسه الهلاك؟!!!

وكما رأينا فليس في الآيات مستند لقولهم, وإنما هي تُجذب إليه جذبا, وإذا كان ليس ثمة دليل في القرآن على هذا التصور (الذي ينسب الشر إلى الله ويعاقب به البشر!!!) فلا يمكن اعتباره من العقيدة, فيكفي الإنسان أن يؤمن بما جاء في القرآن, انطلاقا من أن السنة لا تزيد عما في القرآن, وما زاد فهو إما من التطبيق المرحلي أو مما قام به الرسول –أو قاله- بصفته الإنسانية أو كقائد للمسلمين.

إلا أننا سننتقل إلى الروايات, والتي يستندون إليها في هذا التصور, لأنها صرحت بها, ومن ثم حُملت آيات القرآن عليه, فنناقشها حتى نظهر أنها ليس خالصة مسلمة لهم, فنقول:
الناظر في الأحاديث الواردة عن الرسول الكريم بشأن الحسد يجد أنه استعمل الحسد فيها جلها بالمعنى المألوف, وذلك مثل ما رواه البخاري:
“سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا
وما رواه كذلك: “عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا”
ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه:
“عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ:
قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَرَأَيْتَ هَذَا الرَّمَلَ بِالْبَيْتِ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشْيَ أَرْبَعَةِ أَطْوَافٍ أَسُنَّةٌ هُوَ فَإِنَّ قَوْمَكَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سُنَّةٌ قَالَ فَقَالَ صَدَقُوا وَكَذَبُوا قَالَ قُلْتُ مَا قَوْلُكَ صَدَقُوا وَكَذَبُوا قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ مَكَّةَ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ مِنْ الْهُزَالِ وَكَانُوا يَحْسُدُونَهُ قَالَ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثًا وَيَمْشُوا أَرْبَعًا
ومن ذلك ما رُوي عن عبد الله بن عمرو:
” عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ
قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ قَالَ كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ قَالُوا صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ قَالَ هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ “

وكما رأينا فالاستعمال لا دليل فيه, إلا أنه وردت أحاديث أخرى للرسول تحدث فيها عن “العين” وقال أنها حق, ونلاحظ أن الرسول الكريم قرن بين الحسد والعين في بعض الأحاديث, ومن ثم فهناك فارق بين العين والحسد, مثل ما رواه الطبراني في المعجم الأوسط:
“عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « هؤلاء الكلمات دواء من كل داء : أعوذ بكلمات الله التامات ، وأسمائه كلها عامة من شر السامة والهامة ، ومن شر العين اللامة ، ومن شر حاسد إذا حسد ، ….” اهـ
وما رواه أحمد في مسنده:
“عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا حَسَدَ وَالْعَيْنُ حَقٌّ” اهـ

إلا أن أحاديث العين أصبحت دليلاً على الحسد بالمعنى الخرافي, ومن ثم أصبحت العين هي وسيلة الأذى والتي يحسد بها الإنسان! وهكذا أصبح تفريق الرسول بينهما –عند العوام- من باب الفذلكة اللغوية! فالمعيون هو المحسود ولا فارق! وما هما إلا مترادفات!!

إلا أن العلماء حاولوا أن يفرقوا بين الحسد والعين, فنجد الشيخ الشنقيطي رحمه الله يقول في: أضواء البيان:

“ويشتركان – الحسد والعين – في الأثر ، ويختلفان في الوسيلة والمنطلق ، فالحاسد : قد يحسد ما لم يره ، ويحسد في الأمر المتوقع قبل وقوعه ، ومصدره تحرق القلب واستكثار النعمة على المحسود ، وبتمني زوالها عنه أو عدم حصولها له وهو غاية في حطة النفس

1 والعائن : لا يعين إلا ما يراه والموجود بالفعل ، ومصدره انقداح نظرة العين، وقد يعين ما يكره أن يصاب بأذى منه كولده وماله) (أضواء البيان – 9 / 644 ) 0
2- الحسد قد يقع في الأمر قبل حصوله :

قال الشيخ محمد الأمين المختار الشنقيطي – رحمه الله – : ( فالحاسد قد يحسد في الأمر المتوقع قبل وقوعه ، والعائن لا يعين إلا ما يراه والموجود بالفعل ) ( أضواء البيان – 9 / 644 ) 0

3)- الحاسد أعم وأشمل من العائن :

قال ابن القيم : ( فالعائن حاسد خاص ، ولهذا – والله أعلم – إنما جاء في السورة ذكر الحاسد دون العائن لأنه أعم فكل عائن حاسد ولا بد ، وليس كل حاسد عائنا ، فإذا استعاذ من شر الحسد دخل فيه العين ، وهذا من شمول القرآن وإعجازه وبلاغته ) ( بدائع الفوائد – 2 / 233 ) 0)وكما رأينا فهي محاولة لإسقاط العين على الحسد!! والقرآن لم يذكر العين وإنما تحدث عن الحسد!! -عمرو-)

7)- الحسد يقل في تأثيره عن العين :

قال ابن القيم : ( ويقوى تأثير النفس عند المقابلة فإن العدو إذا غاب عن عدوه قد يشغل نفسه عنه ، فإذا عاينه قبلا اجتمعت الهمة عليه وتوجهت النفس بكليتها إليه ؛ فيتأثر بنظره حتى أن من الناس من يسقط ومنهم من يحم ومنهم من يحمل إلى بيته ، وقد شاهد الناس من ذلك كثيرا ) ( بدائع الفوائد – 2 / 233 ) 0

8)- الحسد يأتي مع الكراهية والحقد :

قال ابن القيم : ( والنظر الذي يؤثر في المنظور قد يكون سببه شدة العداوة والحسد ؛ فيؤثر نظره فيه كما تؤثر نفسه بالحسد000 وقد يكون سببه الإعجاب وهو الذي يسمونه بإصابة العين ؛ وهو أن النظر يرى الشيء رؤية إعجاب به أو استعظام ، فتتكيف روحه بكيفية خاصة تؤثر في المعين ، وهذا هو الذي يعرفه الناس من رؤية المعين فإنهم يستحسنون الشيء ويعجبون منه فيصاب بذلك ) ( بدائع الفوائد – 2 / 233 ) 0

9)- الحسد يصحبه في كثير من الأحيان فعل للتعبير عما يكنه الحاسد من حقد وكراهية في نفسه :

فلا يقتصر ضرره بما أحدثه للمحسود من ضرر في بدنه وماله بتأثير حسده له ، بل يتعدى ذلك لإتباع كافة السبل والوسائل للنيل من ذلك المسكين ، كغيبته والوشاية به ، وإيذائه في نفسه وماله 0

قلت : وقد لوحظ على بعض الحالات المرضية التي عاينتها التأثر بآيات الحسد والسحر ، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على تأثر المريض بحسد الحاسد ، وقيام ذلك الحاسد بفعل السحر لهذا المسكين ، نتيجة لما يحمله في قلبه من حقد دفين ” اهـ

ولقد ذكر الشيخ رحمه الله فروق أخرى ولكنا حذفناها اختصارا, لأنه ليس له في هذه ولا في الأخرى دليل على ما يقول, وإنما هي محاولة عقلية للتفريق بين هذا وذاك, اقتصرت في نهاية المطاف على اختلاف الاسم واتحاد التأثير!!!
إننا إذا نظرنا في الحديث الثاني الذي رواه الإمام أحمد في مسنده والذي يقول:
“عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا حَسَدَ وَالْعَيْنُ حَقٌّ” اهـ
فنجد أن الرسول الكريم كان ينفي بعضا من المعتقدات الجاهلية من بينها العدوى, والتي لا تعني المصطلح الطبي المعاصر وإنما انتقال المرض بمجرد النظر إلى المريض أو نظر المريض إلى الصحيح!!!! ،

وكذلك أن الطيرة باطلة والطيرة تصور حدوث ضرر للشخص إذا رأى في سفره أوعند الشروع فيه طائراً معيناً أو إشارة معينة و( الهامة ) فكرة خرافية مفادها أن المقتول تحل في مكان مقتله روح شريرة من الشياطين تبحث عن قاتله وتؤذي كل من تقابله من الناس, وكذلك الحسد, فهل كان الرسول يقول لهم أن تصوركم للحسد تصور خاطئ, بينما العين الحق؟!

فهل كان الرسول يبطل الاسم قائلا لهم أن استعمالكم اللغوي خاطئ بينما المضمون سليم؟!! إن الرسول الكريم كان يبطل مجموعة من التصورات الخرافية السائدة عند العرب ومن بينها العدوى والتي لا تختلف في مضمونها عن الحسد, فكيف يبطل هذه ويثبت تلك!

إن ورود هذه الكلمة “والعين حق” في هذا السياق يحتم أن يكون فهمها ليس هو الفهم السائد المنتشر بين الناس, وإلا كان الرسول يقول كلاما متناقضا!! وذلك مثل قوله: “عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ وَلا هَامَةَ وَلا صَفَرَ، وفُـرّ من المجذوم كما تَفرّ من الأسد»

فهو في هذا الحديث ينفي انتقال الأمراض هكذا بمجرد النظر أو بدون سبب, إلا أنه لا ينفي انتقالها عامة, لذلك أمر بالفرار من المجذوم كالفرار من الأسد, وهكذا علينا فهم العين بمعنى آخر غير المألوف؟!

إننا إذا وضعنا أنفسنا مكان الصحابة الذين تلقوا هذا الحديث فإننا نفهم أن العرب في ذلك الوقت كانت تؤمن بالعدوى –بالمفهوم الخرافي- وبالطيرة وبالهامة وبالحسد, بينما هناك شك أو إنكار ل “العين”, فأبطل الرسول لهم التصورات الخرافية وبين أن “العين حق”! فما هي العين التي كانت العرب تنكرها وقال الرسول أنها حق؟! هل كانت العرب تقول أن العين لا تؤثر فقال لهم أنها تؤثر بدون سبب؟!

من خلال نظرنا في مفردات القرآن واستعماله لكلمة “حق” في مجال الخلق, مثل قوله سبحانه: “وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ … [الحجر: 85]
نجد أنه يتحدث عن شيء له أسباب وسبل, بسيران الشيء على طبائعه, ومن ثم فإن قول الرسول أن “العين حق” فهذا يعني أنه يتحدث عن شيء له وجود في عالم الطبيعة حولنا له تأثير, ولم تربط العرب بين التأثير والمؤثر وأنكرت هذا, وآمنت بعلاقات خرافية, فأبطل الرسول لهم التصورات الخرافية وأن العين حق؟!

والسؤال هنا: ما هي العين التي تحدث عنها الرسول الكريم؟!
الذي يظهر أن العين هي آفة أو مرض ما يصيب الإنسان وينتقل بطريقة ما, وهذه الآفة مرض مهلك قد يقتل الإنسان!
ولما كان السادة الذين تعاملوا مع النصوص النبوية لم يعرفوا ما هي “العين” ففهموا أنها هي الحسد!!! وهكذا أثبتوا ما نفاه الرسول الكريم.

ولقد قرأت لأحد الباحثين يدعى: رايق العودات, مبحثا طويلا يتحدث فيه عن الحسد والعين, وقال فيه أن العين هي أمراض جلدية مثل الحصبة, والتي قد تهلك الإنسان, فمما كتب:
عن سعيد بن زيد  قال : سمعت النبي يقول: « الكمأة من المن وماؤها شفاء العين »

ومن خلال استعراض بعض المعاني اللغوية للعين تبين أن العين تطلق على العيوب الجلدية التي هي عبارة عن ندب في الجلد أي أن كل عيب في الجلد هو عين. كما أن أي انسلاخ في الجلد أيضا هو عين بالإضافة إلى أن هناك مرضاً جلدياً اسمه العين بّين الفرّاء أنه عبارة عن دوائر رقيقة تكون في الجلد، وهذا المرض والعيب الجلدي هو الذي وصف النبي  لعلاجه عصارة الكمأ .

والدليل على أن العين مرض جلدي أن النبي قرن بين العين والوشم وجمع بينهما في حديث واحد، أخرج البخاري في كتاب الطب باب العين حق عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله  : « العين حق ونهى عن الوشم ».” اهـ

والمعنى الذي ذكره الباحث مقبول, وندعو القارئ لقراءة مبحثه كاملا, ففيه تفصيل طيب, وإن كنا نرى أن مسألة العين هذه تحتاج إلى مزيد بحث.

ومع وجود معنى سليم وفهم سقيم للكلمة وُضعت بعض الأحاديث التي تؤكد التصور الخرافي وتجزم به.
وهكذا يظهر لنا أن الحسد ما هو إلا شعور كريه عند الإنسان, والعين آفة تصيب الإنسان وتهلكه, إلا أنها أسيء فهمها فأصبحت دالا على تصور خرافي نفاه الرسول الكريم وأبطله في أحاديث له.
غفر الله لنا الزلل والخلل والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

عن المشهد التربوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.