“ألا إن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار”
هذا هو أول ما يتبادر إلى ذهن المسلم عندما يسمع كلمة “بدعة”, تلك الجملة التي لُقنها منذ صغره وسمعها مراراً وتكراراً من خطباء المساجد في استفتاح خطبهم, والمنسوبة إلى النبي الكريم,
كما يروي النسائي: “عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته يحمد الله ويثني عليه بما هو له أهل ثم يقول: من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. “
وبغض النظر عن كون الرواية من قول النبي أم أنها من قول ابن مسعود الذي يتحدث عن غائب وليس عن نفسه, كما روى البيهقي في شُعب الإيمان: “قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، أَلَا إِنَّ الْبَعِيدَ مَا لَيْسَ بِآتٍ أَلَا لَا يَعْجَلِ اللهُ لِعَجَلَةِ أَحَدٍ، وَلَا تَجِدْ لِأَمْرِ النَّاسِ، فَإِنْ شَاءَ اللهُ لَا مَا شَاءَ النَّاسُ يُرِيدُ اللهُ أَمْرًا، وَيُرِيدُ النَّاسُ أَمْرًا مَا شَاءَ اللهُ كَانَ وَلَوْ كَرِهَ النَّاسُ، لَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدَ اللهُ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبَ اللهُ، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ أَصْدَقُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَأَحْسَنُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ “, بغض النظر عن هذا نتساءل:
إذا كانت البدعة هي الشيء الجديد المستحدث, فما هو المقصود من البدعة, هل كل جديد مذموم؟! يرى السلفيون أنفسهم أن ليس كل جديد يعتبر بدعة, وإنما المقصود هو الابتداع في أمور الدين, باختلاق واجبات أو محرمات لم ينزلها الله, أو بتطبيق شرع الله على غير ما طبقه الرسول الكريم والسلف الصالح. إلا أنهم اختلفوا في تحديد معنى البدعة في الاصطلاح, فمنهم من جعلها كمقابل للسنة،
ومنهم من جعلها عامة تشمل كل ما حدث بعد عهد النبي المصطفى, سواء كان محموداً أم مذموماً.
ويعرض عبد الله التويجري الاختلاف في تعريف “البدعة” تبعاً للنظر إليها, فيقول:
“وقال الشاطبي في تعريف البدعة: (البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه). وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة، وإنَّما يخصّها بالعبادات. وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول: (البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية) ” اهـ.
كما يعرض أنواع البدع, فيقول: “البدع كلها مذمومة – وهو القول الراجح من أقوال العلماء -فإنهم قالوا بأن البدع حرام ، ولكنها تتفاوت في التحريم :
أ- فمنها ما هو كفر لا يحتمل التأويل، كبدعة الجاهلية التي نبَّه عليها القرآن، كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا}.
ب- ومنها ما هو من المعاصي التي ليست بكفر، أو مختلف فيها هل هي كفر أم لا؟ كبدعة الخوارج، والقدرية، والمرجئة، ومن أشبههم من الفرق الضَّالة.
ج- ومنها ما هو معصية؛ كبدعة التبتل، والصيام قائماً في الشمس، والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع.
د-ومنها ما هو مكروه، كبدعة التعريف -وهو اجتماع الناس في المساجد للدعاء عشية عرفة- وذكر السلاطين في خطبة الجمعة، ونـحو ذلك. فهذه البدع ليست في رتبة واحدة، وليس حكمها واحد. ” اهـ
إذا فالبدعة هي اختصاراً “تقليد أو محاكاة”, شيء أتى به بشر مثل شرع الله إلا أنه ليس له أصل في دين الله! إلا أن هذا يدفعنا للتساؤل: هل هذا التعريف ينطبق على ال”بدعة”؟
إن تعريف اللغة لله البديع أنه هو الذي خلق على غير مثال فليس خلقه عن تقليد ولا مثال, وهو أمر النبي الكريم أن يقول: “قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ …[الأحقاف : 9]”, أي أنني لست بالجديد الذي ليس له سابق من الرسل, وإنما هناك من سبقني منهم, فلماذا الاعتراض علي؟!
إن النبي تبعاً لتعريفهم هو بدع من الرسل, فهو مماثل لسابقٍ له! والله يقول أنه ليس بدعاً من الرسل, ومن ثم فلا يمكن أن تكون البدعة تقليداً, وإنما هي الشيء الفريد المنشأٌ إنشاءً ليس له مثيل ولا سابق, -كما نقول أن هذا من إبداعات فلان- ومن ثم لا يمكن أن تصدق على تعريفاتهم للبدعة بحال, وإنما يمكن تعريفها بأنها: الطريقة المخترعة والمنسوبة إلى الدين زوراً وبهتانا.
ويؤكد هذا قولُ الله تعالى: “… وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد : 27]”
فالله تعالى كتب عليهم الرهبانية, والتي هي كما قال: “ابتغاء رضوان الله”, فأتوا بطريقة لم يسبق أن أمر الله بها, وهي ترك الدنيا والنكاح والزهد والتعبد في الصوامع وفي الصحراوات.
فالرهبانية التي كتبها الله تعالى لم تكن هذا الفعل أو شبيهاً به, وإنما هم الذين أتوا بهذا الأفعال ونسبوها إلى الله بإسقاطها على اسم عبادة موجودة فعلاً, وما ذكره التويجري كمثال للبدعة الكفرية هو ما يصدق عليه “البدعة”, فالمشركون اخترعوا بعض أحكامٍ ما أنزل الله بها من سلطان ونسبوها إليه, وهذه هي البدعة.
ويؤكد هذا الفهم الحديث الذي رواه البخاري ومسلم, -واللفظ لمسلم-: “…. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ “,
فنلاحظ أن النبي الكريم بين أن البدعة إحداث شيء في الدين ليس منه –ونسبتها بتحايلٍ ما إلى الدين-, أما السلفيون ففهموا الحديث على أنه: “من أحدث في أمرنا هذا فهو رد”, بل وفهموه: “من غيّر/ حرّف في أمرنا فهو رد”.
إن النبي بيّن أن المردود هو المحدث الذي ليس من الدين, أي أن المسألة ابتداع وإضافة وليس تغيير, وذلك لأن الله أعطى المسلم إمكانية الاجتهاد في العبادة, ففرض عليه فرائض ولم يمنعه من أن يزيد عليها,
وهذا ما كان النبي الكريم يطبقه, فالصلوات المكتوبات مثلاً خمس صلوات, والنبي الكريم كعبد صالح كان يزيد على هذه الصلوات حباً وقرباً إلى الله فكان يصلي ركعات قبل أو بعد المفروضة وفي الليل
وأي إنسان مؤمن يود التقرب إلى الله عليه أن يزيد من الصلاة, أي أن يصلي صلوات فوق المكتوبة, فإن التزم في الزيادة بهدي النبي فبها ونعمت وإن زاد أو نقص عنها فلا حرج.
وكذلك الذكر فالنبي كان يذكر الله تعالى استشعاراً بالخضوع والجلال والرهبة, وكان يذكره على أحوالٍ معينة, وليس ثمة مانع أن يذكر الإنسان ربه على أي حال يشعر معها وبها أنه قريب من الله, فلو ذكرت الله أثناء الوضوء مثلاً
وهو لم يرد عن النبي- فليس هذا ببدعة, لأنه داخل تحت الذكر المأمور به على أي وكل حال, والفيصل في المسألة ألا يقدِّم هذه الطريقة للناس باعتبارها من الدين, أو يدعي أن لها فضلاً أو أثراً معيناً.
ومن ثم فإن أي فعل يقوم به الإنسان ولا ينسبه إلى الله تعالى أو إلى الدين فهو ليس ببدعة, فأن يحدث المسلمون طرقاً جديدة لتسيير حياتهم وأمورهم وأن ينشئوا لهم عادات جديدة فليس له علاقة بالبدعة بحال, كما أن أي اجتهاد في فهم نصوص لم يفصلها الله تعالى لا يُعد بدعة, فليس قول أي أحد بحجة على أحد, فالكل يجتهد والعبرة بأيهم أقرب للنص.
والإشكالية في موقف السلفيين من “أصحاب البدع” –والذين أصبحتُ محسوباً عليهم!-, أنهم يمنعون محاورتهم أو مجادلتهم ولا يستمعون إليهم, ويتلخص موقفهم منه في أنهم:
“يبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه ولا يحبونهم, ولا يصحبونهم ولا يسمعون كلامهم ولا يجالسونهم ولا يجادلونهم في الدين ولا يناظرونهم, ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم, التي إذا مرت بالآذان وقرت في القلوب, ضرت وجرت إليها من الوساوس والخطرات ما جرت, وفيهم أنزل الله عز وجل قوله: “وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام : 68]” ” اهـ
ولا يعني هذا أن السلفيين لا يردون على المبتدعة, فكتبهم ورسائلهم في الرد على كل كبيرة وصغيرة وتبديعها! إلا أنهم يقومون بإجراء عزلة وحصار للمخالف, فلا يجادلونه شخصياً ولا يسمعون له.
ولن نعرض لأدلتهم التي يستدلون بها على هذا الموقف لأنها مما لا يستحق الالتفات إليه, فالله تعالى حاور الكفار وخلّد مقولاتهم في كتابه والكتاب كله قائم على الحوار,
والنبي ومن سبقه من إخوانه من الأنبياء والرسل حاوروا أقوامهم من الكافرين والمشركين, وهذا هو دور أمة الإسلام المخرجة للناس, فكيف يُقاطع المبتدعة –الذين هم ليسوا مبتدعة كما بيّنا؟- أم أن الحوار يكون لغير المسلمين فقط, وأما المسلمون أصحاب الرأي الآخر فلا يُسمع لهم, وإنما يُعزلون تأديباً لهم وتبرأً منهم؟!
شاهد أيضاً
نقد رفض التعقل
من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …