حول المأزومية

كثيراً ما يمر الإنسان في حياته بمواقف أو بأحداث، يرى أن بها “ظلما” أو جورا أو خللاً أو خطأ، ولكنه يكتفي بأن يمصمص شفتيه امتعاضا أو أن يحوقل ثم ينشغل بأموره، ولكن من بين هذه المواقف التي يمر بها الإنسان –ولأسباب كثيرة- يوجد بعضٌ يمر “فيه”، مع تكراره ويترك فيه أثرا، فتتجمع هذه المواقف –أو القراءات!- فتشكل قضية محركة لديه، تدفعه لأن يأخذ موقفاً ما تجاهها، إما بالتأييد والمساندة أو بالرفض والمهاجمة، بينما يصغر في عينه باقي القضايا فلا يلقي لها بالاً .. وهذا “التحمل” لقضية ما يبين لك حقيقة هذا الشخص وحقيقة تركيبته النفسية وانشغالاته الفكرية، لأنه ما من إنسان يستطيع أن يتحمل كل القضايا ولا حتى معشارها.

فإذا نظرنا إلى عامة “القضايا المحمولة” من زاوية مغايرة وجدنا أنها “مظلومية” عند الطرف الآخر، وأحيانا عند حامليها أنفسهم، فقضية المرأة وحقوقها هي مظلومية عند “الفيمنيستات والفيمينستيين” حيث يرون المرأة قد ظلمت عبر التاريخ ظلما بيناً، ومن ثم فهي تستحق الدفاع عنها!
وعلى الناحية الأخرى فإن الرجال يرون أنهم مظلومون، وأنه لا يوجد ما يستحق ولا ما يستدعي هذه التكتلات، وأنها نوع من العنصرية وأن النساء أخذن ويأخذن حقوقهن، وأنه ربما يكون الرجال هو من يحتاج إلى من يدافع عنه!

وكذلك هناك من يحدث لديه “تأزم” من الآخر المختلف عنه، فتجد مثلا من لديه إشكالية مع الآخر المذهبي، فهو لديه مثلا حالة تأزم مع الشيعة، ويرى كل ما يصدر عنهم فيه ضر وخديعة! وأنهم أخطر على المسلمين!!! من اليهود والنصارى! وأن علينا أن نتبرأ منهم ونقاطعهم .. الخ. وهناك من لديه تأزم مع الآخر المختلف معه فكراً، فتجد أن الرأسمالي يعادي الاشتراكي والشيوعي، والإسلامي يعادي العلماني –وبالعكس-، وهناك من يأخذ موقفا من المترفين .. الخ.

وبداهة فإن الاختلاف واقع لا محالة، وفي جميع الأحوال سيكون هناك اختلاف بدرجة ما، ولكن القضية هي: هل يقتصر الخلاف على الآراء: قبول بعض الآراء أو ردها، تصويبها أو تخطيأها، أم أنه يتعداه إلى مناصبة حاملي الرأي نفسه العداء؟!
للأسف الشديد فإن كثيرين يتجاوزون الآراء إلى حامليها، فيرونهم أعداء أشراراً، هم سبب –من أسباب- البلاء في العالم، ولا إشكال في أن ترى شخصا حتى كشيطان، طالما أن هذه الرؤية ستظل حبيسة صدرك أو أنك حتى ستخرجها في مقالات أو كتب تعبر عن وجهة نظرك، ولكن أن يتطور الأمر إلى السباب والتكفير والإيذاء البدني أو الاغتيالات أو الاستعانة بالدولة لتقييد الطرف الآخر أو لمصادرته، فإن هذا يوضح مقدار “المأزومية” النفسية والفكرية عند هؤلاء الأشخاص، وفعلهم هذا يزيد المجتمع تأزما ويدفع إلى مزيد صراعات وتشقق في بناء المجتمع.

وهنا أبين أن سعة “الخلق” –أو الصدر- وليس الأفق، هي التي تمكن الإنسان من تقبل الآخر والتحاور معه، بينما ضيق الخلق هو ما ينتج عنه هذا التأزم وهذه الكراهية، وكم من أفراد تشعر أنهم يكرهون كل ما يحيط بهم، حتى إن الواحد ليظن أنهم يكرهون أنفسهم ذاتها ويكرهون أوطانهم ..
وقديما سمعنا: الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، طالما أن القلب سليم!
ولله الحمد فأنا اختلف مع الجميع تقريبا –وأتفق معهم كذلك في مسائل- ولكني لا أعادي أحد، وليس لدي تأزم من تيار بعينه! ولي أصدقاء من كل التيارات بلا استثناء! ومأزوميتي الوحيدة هي مع الظالمين، الذين يظلمون الناس، ونُبهوا إلى ظلمهم فلم يتراجعوا واستمروا على ما هم عليه! وهذه مظلومية مع “فعل” وليست مع “فكر” وفارق كبير بين الاثنين!

كم أرجو أن ينتبه أكثر العاملين في الساحة الفكرية: أين ولم يحملون قلمهم ويخطون، لأن كثيراً مما يستحق الخط يُترك، وكثير مما يستحق الترك –أو التأجيل أو غط الطرف- يُبرز ويبين ويُرفع! والمأزوميات/ المظلوميات المجتمعية لا تنشأ هكذا من الفراغ، وإنما من أقلام أثارث القلاقل وحركات كمائن النفوس وهيجت حتى تأزمت الأوضاع، وأصبح جد عسير أن تُفك أو تُحل مجددا! وستحتاج إلى طويل كتابات وكثير كلام ..حتى يُرفع الخلاف ويعود الوآم.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

الأدب مع الله

سبحانك ربنا المتعالتباركت ربنا الكبيرجلت عظمتك يا عزيزمتفرد أنت بوحدانيتكمتكبر أنت عن كل مثلبةلك الكبرياء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.