تاريخية النص” –التي تحدثنا عنها في المقال الماضي- كانت نتيجة لإشكالية الصلاحية, فبعد مرور قرون من عمر الإسلام أصبحت صلاحية النص الديني “القرآن” موضع أخذ ورد, وظهرت بعض الأصوات التي تقول بأن النص لم يعد صالحا. والعجيب أن محور ارتكاز المنادين بعدم صلاحية النص كان هو آيات الأحكام
حيث قالوا أن هذه الأحكام “ربما” كانت صالحة لتلك البيئة وفي ذلك الزمان, أما في زماننا هذا فلم يعد ثمة مجال للحديث عن “قوامة الرجل على المرأة” أو لتوريث المرأة نصف الرجل, أو للحديث عن قطع أيدي السارقين أو جلد الزناة! –هذا إذا اعتُبرت العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج عملاً محرما مجرّما!
ومن ثم فعلينا البحث عن “قوانين” أخرى تتناسب مع مجتمعاتنا!
وبغض النظر عن أن الدافع للمناداة بهذا كان “القياس” على المجتمعات الغربية, واعتبارها النموذج الإنساني الأقوم, الذي علينا الاقتداء به لتحقيق الصلاح,
وعن أن “المفكرين” ينظرون إلى الدين باعتباره مجرد “شريعة”! بغض النظر عن هذا فليست “الأحكام” مما ينبغي أن يكون مقياساً للصلاحية من عدمه! وذلك لأنها مما يختلف من مجتمع إلى آخر شدةَ ولينا, وإنما مقياس آخر انتبه إليه بعض “العوام”, وكان سبباً في اتجاههم إلى الإلحاد!
وهو: كيف يخاطب القرآنُ إنسانَ القرن العشرين والحادي والعشرين والقرون القادمة, الذي تعامل مع مختلف أصناف التقيات الحديثة, مثل الحواسيب والهواتف المحمولة والمرئيات .. الخ, ويقنعه بلغة تناسب عقله وفكره, وكيف يجعل منه إنساناً “صالحا”؟! ولما وجدوا القرآن لم يعرض للتقنيات!! قالوا أنه غير صالح, ومن ثم أعرضوا عنه!!
والشباب هم غالباً من يطرحون هذا السؤال, لأنهم لم يكتشفوا بعد طبيعتهم وكينونتهم الإنسانية, وينظرون إلى أنفسهم كعقول وآلات! ومن ثم يصدقون بما يُسمى ب “تطور الإنسان”
والإنسان ثابت لا يتطور –إلا في الجانب المعرفي, حيث يكتسب علوماً ومعارف جديدة-, ولا فارق بين الإنسان الأول وإنسان نهاية التاريخ, فكلاهما يفعل نفس الأفعال ويحتاج نفس الاحتياجات, والفارق الوحيد هو في مظهر الاحتياجات والأفعال, فالإنسان كائن مجتمعي يتعامل مع غيره, يحتاج مأكلا وملبسا ومشربا, وغذاء روح؛ متمثلاً في التقديس, وبعض الاحتياجات النفسية الأخرى مثل الأمن والتقدير والحب.
فماذا اختلف حال إنساننا عن الإنسان الأول؟ هل أقلعنا عن الطعام أم عن ممارسة الجنس, أم لم نعد بحاجة إلى المأوى أم استغنينا عن التقديس, أم هل انعزلنا عن غيرنا, أم هل أقلعنا عن الحب والكره والخداع؟!
كل ما هنالك أن أدوات ووسائل هذه الأمور أصبحت أكثر نعومة ويسرا وسرعة وأجمل شكلاً, ما عدا ذلك فلا اختلاف, فالإنسان لا يزال يقتل ويزني ويغش في الموازين –المتطورة- ويشهد زورا ويزوّر ويحتال وينتحر! فلم تظهر جريمة أو احتياج إنساني, لم يكونا موجودين مسبقا! وهنا تكمن عبقرية النص القرآني, فلقد استغل القرآن العنصر الثابت الذي لا يتغير, وهو الكون والتاريخ, إضافة إلى الاحتياجات الإنسانية الأساسية!
فهو يدعوه إلى النظر في الكون والتفكر فيه وأمره بالسير في الأرض ليرى الآيات البينات, ويتفكر في طبيعتها وكيف تسير وكيف تعمل: ” قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ .. [العنكبوت : 20]”
وسيظل الإنسان إلى قيام الساعة يسير في الأرض, يكتشف جديدا في خلق الله, ويحاول أن يستغل ما أودعه الله من قوانين طبيعية في حياته, ليجعلها أفضل وأيسر. كما عمل الكتاب على إثارة الحس الجمالي لمتلقيه من خلال عرض الظواهر الطبيعية المحيطة بهم وعرض آثارها عليهم بصورة بديعة في آيات عدة.
كما أمرهم بالتفكر والتدبر في آثار السابقين, حتى لا يهلك المجتمع بما هلكوا به: “أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الروم : 9]”
وأما العنصر الآخر الذي استخدمه الكتاب في مخاطبة الإنسان فهو عنصر الاحتياجات الرئيسة, وأهمها بالنسبة للبشر هو الطعام! فهم يستغنون عن كثير من الاحتياجات الأخرى, ولكن لا يمكن الاستغناء عن الطعام والشراب
لذلك استُخدم هذا العنصر الهام في تذكير الإنسان باحتياجه إلى الخالق, الذي أوجد له هذا الطعام وأمده به. والعجيب أن البشر يأكلون ولا يتساءلون ويشربون ولا يحمدون! فإذا نحن نظرنا في طعام الإنسان وجدناه لا يخرج عن عنصرين اثنين, وهما النبات والحيوان!
والنصيب الأكبر من الغذاء الحيواني للإنسان يكاد بنحصر في الأنعام “الإبل, البقر, الضأن, الماعز”, فالإنسان يربيها ويستخدمها استخدمات عدة بخلاف أكلها: “وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [النحل : 5]” والأنعام من أكبر النعم! –لاحظ تشابه مبنى الكلمتين!-, وهناك اقتصاد لدول قائم على الأنعام.
ولا يعني هذا أن الكتاب أغفل باقي جوانب الاحتياجات الإنسانية, لا فلقد خاطبه بكل احتياجاته الثابتة والباقية, مثل الجنس والزينة والتطلع إلى الجديد والتفاخر بالأبنية والتعالي فيها, والارتباط بينه وبين بعض الحيوانات
ولكن هذا الخطاب كان أقل كمّاً من الآخر:” زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ .. [آل عمران : 14]”,
ويبقى الاحتياج الأخير الرئيس عند الإنسان وهو الحاجة إلى التقديس والعبادة, وهو لُب أي دين, وهو ما وفره الكتاب للإنسان بدرجة لا يحتاج معها إلى النظر في أي كتاب آخر, توفيرا يربط العقل بالقلب, وليس ذلك المعطل للعقل من أجل القلب!
إذا لقد خاطب القرآن الإنسان –في أي زمان ومكانٍ كان- بكل احتياجاته, مادية كانت أو روحية أو فكرية, وعليه أن يبتكر هو في الأدوات والوسائل التي ييسر ويسير بها حياته, أما الأدوات والوسائل فهي خاضعة للتغير والتطور, وعلى الإنسان أن يُطور بقدر ما يستطيع. وبهذا يظهر لنا أن من يتحدث عن عدم صلاحية القرآن هو من لا يعرف .. الإنسان.