كيف نسمي الأشياء؟

إن الكائنات والجمادات والأحداث والعلاقات محيطة بالإنسان إحاطة تامة, فأينما يولي وجهه يجدها قبالته, ولكي ينقل الإنسان هذه الأشياء من “عالم الواقع” إلى “عالم الفكر” –ثم الاستخدام-, كان لزاما عليه أن يميزها

وكان هذا التمييز بإعطاء وصف محدِّد للشيء فاصل له عن غيره, لهذا لا نجد اسما يمثل وصفا عاما غير مميز, فمثلاً لا نجد كائن اسمه: الماشي, أو: النائم, لأن هذا مما يشترك فيه الكثير من الكائنات, (نعم, يوجد هذا الإطلاق عند الرغبة في إعطاء اسم عام لجنس من الأجناس

فنجد مثلا: الطائر, تمييز لكل “الحيوانات” التي تطير, و “الزواحف” وهكذا!), وكذلك مثلاً سميت السفينة سفينة لأنها تسفن الماء أي تقشره أو تشقه. وكما لاحظنا فإن هذا الوصف يكون مقتصراً على مفردة واحدة, -وليس كما تفعل التعريفات العلمية أو الفلسفية “المأزومة”, والتي تعطي تعريفات طويلة للشيء, غالباً ما تفشل في أن تكون جامعة مانعة-, وهذا الوصف هو ما عُرف في المسير الإنساني كله ب: التسمية.

وفي مقالنا هذا الذي نحاول أن نعرض فيه للتساؤل: كيف سمى ويسمي البشر؟ نبتدأ بالإنسان الأول وكيف سمى الأشياء –ولن نعرض هنا لقضية أصل اللغة وهل هي: توقيفية (إلهامية) أم اصطلاحية (تواضعية) فسنفرد لهذه المسألة مقالاً مخصوصا بإذن الله-, فنقول:

أول ما نبدأ به المقال هو الإشارة إلى أسبقية ظهور المفردات المعبرة عن الكينونات المادية في أي لغة, وأن هذه المفردات “المادية المجسِّمة” هي ما بُني عليها صرح المفردات
لذلك نجد أن كل مفرداتنا وتصوراتنا راجعة إلى أصل مادي, أو إلى “علاقات” بين “ماديات”, فالماديات المجسمات دوما سابقة, والمعنويات المجردات دوما متأخرة, فدال مثل “اليوم والشهر” تأخر كثيرا حتى ظهر بين البشر, ومصطلح مثل: التاريخ والتأريخ تأخر أكثر وأكثر! بينما مفردات مثل أكل وشرب ونام وطويل وقصير وخطير من المفردات السوابق!.

وكما أن علماء اللغة كثيراً ما يتحدثون عن “المفردات الأكثر استخداما”, في أي لغة, وهي التي نستخدمها بوفرة في حياتنا اليومية, لاحتياجنا الكبير لها في تسيير أمورنا, فيمكنني الحديث عن “المفردات السوابق”, والتي هي المفردات التي احتك بظواهرها الإنسان الأول في بداية رحلته على الأرض من شجر وحيوانات وماء وريح وسماء .. الخ

ومن ثم قام باختراع مفردات خاصة للدلالة عليها وللإشارة إليها, وعلى هذه المفردات السوابق تم –ويتم- بناء باقي الصرح اللغوي! ونحن حتى يومنا هذا نعمل على استنساخ هذه التجربة مع أطفالنا, فنقدم لهم أول ما نقدم هذه المفردات, ونعمل على أن نعرف بطبائع هذه الكائنات, فالأسد يأكل اللحوم, والبقرة تأكل الأعشاب وتعطينا الألبان .. الخ.

بغض النظر عن كوني أرى أن الإنسان الأول ابتدأ الكلام/ التسمية بكلمات ثنائية الحروف, فإني أرى أن الصوت نشأ من الصوت, -وذلك لكون الإنسان كائن مقلدٌ بامتياز- وأن أبرز السمات الملازمة للشيء والتي لفتت انتباه الإنسان الأول كانت الأصوات المصاحبة للكائنات

ومن ثم بدأ يعطي الأشياء أسماء هي تقليد لأصواتها, مثل صوت حفيف الأشجار وفحيح الأفاعي وخرير الماء (فأنا أعتقد ان الإنسان الأول لم يعرف كلمة شجرة ولا أفعى ولا ماء إلا في مرحلة متأخرة, وأن الاسم الأول لها عنده كان له علاقة بصوتها), وهو ما نلاحظه عند الأطفال الصغار

فنجد أن أحدهم قد يسمى العطر مثلا ب “تس”, كتقليد منه للصوت الذي يصدر منه عند التطيب. واستمرت آلية تسمية الشيء بصوته عند العرب وغيرهم من الأمم, باعتباره فارق مميز, فوجدنا العربي يصف بعض أشكال “افتراس” الطعام, ب: القضب أو القطم, والألمان مثلاً يسمون التثاؤب ب: “جانن “, باعتبار أن من يتثاءب يصدر هذا الصوت.

ولأن الإنسان كذلك يعتمد في تفكيره بدرجة كبيرة على “التصنيف” -ما أميل إلى تسميته ب “التشجير/ العوئلة-, والقائم على إلحاق الشيء بشبيهه واعتبارهم عائلة واحدة, (وكانت هذه الخطوة لاحقة لمرحلة “تمييز الأعراض”, مثل اللون والطول والسُمك, وإعطاءها مفردات خاصة بها)

فقام –أحيانا- بإطلاق مفردات متشابهة على الأحداث المتشابهة, فنجد مثلاً في العربية: القشط والكشط والقشد, وهي أفعالة جد متقاربة مبنى وصورة.
وقد يلاحظ الإنسان وجود مشترك بين شيئين وزيادة في أحدهما فيقوم بأخذ حروف كلمة ثم إضافة حرف أو حرفين إليها للإشارة إلى تبعية هذا لذاك, فمثلا: حمر (لاحظ أنها: “حم” حيث السخونة مرتبطة بالنار, وللإشارة إلى الثبات في اللون أضيفت الراء. والتسمية باللون باعتباره مميِّز من المألوفات فوجدنا: البيضة, الحمار –لأن الحمير التي كانت موجودة في جزيرة العرب وقتها كانت حمراء-, الخضراوات, الصفرا!

وهنا لا بد أن نُذكر بأن الإنسان منذ طفولته يدرك ويلاحظ “قوانين/ قواعد/ مسارات” البناء اللغوي المستخدم بين قومه, والتي استقر الحال عليه, حتى وإن لم يدرس مرة واحدة لغة أو نحوا, ومن ثم فهو يلاحظ بشكلٍ لا واع “المسار اللغوي” للغته, وتبعا لهذا المسار يولد مفردات جديدة! وهذا ما كان يقوم به السابقون/

واللاحقون في عملية توليد المفردات! -قبل أن تظهر ظاهرة تسمية الأشياء بأسماء مكتشفيها!! أو برموز مجردة- فمثلاً, غالباً ما نسمي الأشياء (وليس الأشخاص ولا الحيوانات) بوظائفهم *, مثل: مفتاح سكين حاسوب, مذياع .. الخ سواء التي يقوم بها أو التي يرغب أن يقوم بها, مثل: المشفى, حيث يؤمل أن يُشفى من يدخلها مريضا (بينما يسميها الألمان ب: بيت المرضى)

وكذلك سمت العرب الملدوغ: السليم, وسموا القافلة بذلك تيمنا بعودتها. ولا يزال كثيرون يسمون أبناءهم ب “صفات” تحمل معنى جميلا على أمل أن يتحقق فيهم عندما يكبرون*! واستمر اللاحقون على هذا النهج الذي استشعروه, بدون أن يعلّمهم أحد هذا, وحتى الآن نسمي –على الهاتف- الإنسان بالوظيفة التي يقوم بها: خالد كُتب! محمد باطنة!

وبعد ظهور المجتمعات البشرية وتعقدها, أصبح لكل “طائفة” من طوائف المجتمع دور في توليد مفردات بعينها, فأرباب الصنائع والحرف كان لهم دور في توليد مفردات جديدة, سواء في العصور القديمة أو حتى عصرنا هذا, والتي قد تظل حبيسة أبناء “الصنعة”, مثلا: “العربية بتنعر كويس”, “حيّط العربية *” أو قد تتسلل وتدخل في حيز الاستخدام اليومي.

وأبرز من كان لهم دور في إنشاء مفردات –وتعبيرات- جديدة وادخالها إلى “حقيبة مفردات” هم الكهان والشعراء والأدباء! وفي العصر الحديث يمكننا إضافة الممثلين, وكذلك: العلماء والذين يقومون باشتقاق ونحت مفردات جديدة, ولكنها مفردات “صناعية” علمية, وغالبا ما تظل في عزلة عن الاستخدام في الحياة اليومية, لأنها لا تكون منسجمة ولا سائرة مع “النهج” العام في الاشتقاق والتوليد!

وهناك عوامل أخرى أثرت –وتؤثر- في عملية “التسمية”, لن نتحدث عنها هنا, وإنما سنؤجلها للموضوع القادم والذي سنتحدث فيه عن قضية: العلاقة بين الدال والمدلول, حيث أنها ستكون أكثر مناسبة له, فنكتفي بهذا القدر آملين أن نكون قد غطينا أهم جوانب القضية.

_______________________

(1) يُلقب الأشخاص بوظائفهم أو بالبلدة التي نشأوا فيها, فنجد أن أسماء العائلات كثيراً ما تكون وظيفة: الحداد النجار العجلاتي, أو إشارة إلى المنشأ: الشربيني السمنودي الطنطاوي.

(2) بينما كان العرب قديما يسمون أبناءهم الذكور أسماءً تشير إلى القوة والصلابة وربما القبح لإثارة الرهبة عند من يسمع بالاسم.
(3) إشارة إلى صوت المحرك, إلى ركن السيارة بشكل ملاصق للحائط

من هنا

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

أين “الأخلاق” الإسلامية؟!

لا أعني بعنواني هذا تردي المستوى الأخلاقي عند المسلمين, وإنما أعني به “المنظومة الأخلاقية” ذات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.