عندما ننطق أي كلمة, على سبيل المثال “حصان”, فإن الأصوات/ المفردة “ح ص ا ن” هي الدال, والكائن هو “المدلول”, فالحيوان المعروف المستخدم للركوب والمسابقة هو المدلول, والسؤال الذي طرحه كثيرٌ من الفلاسفة: ما هي العلاقة بين مجموعة الأصوات هذه “المفردة” وبين الكائن؟
هل العلاقة ضرورية أي أنه كان سيُسمى لا محالة “حصان”, لوجود مجموعة من السمات المميزة فيه تنعكس في الأصوات, أم أن العلاقة بين “الاسم” و “المسمى” علاقة اعتباطية قائمة على التواضع, ومن ثم كان من الممكن أن يُسمى الحصان “حمار”, وتُسمى “الشمس” “قمرا”, والكرسي قلماً وهكذا؟!
الناظر يجد أن علماء اللغة قدموا الرأيين, فمنهم من قال أن العلاقة بين الدال والمدلول ضرورية, منطلقين من نظرية محاكاة الإنسان لأصوات الطبيعة, ويرون أن ذهن الإنسان لا يتقبل الأصوات التي لا تدل على شيء أي التي لا تحمل معنى!!! “وهناك كلمات كثيرة مستمدة من الواقع الطبيعي فمثلا لفظ “خرير ” يشير الى الصوت الطبيعي الذي يحدثه انسياب الماء . ولفظ “شخير” يشير الى صوت طبيعي قد يحدثه النائم”
وهناك من رأى أن العلاقة بين الدال والمدلول اعتباطية قائمة على التواضع, وأكبر أدلتهم هو تنوع اللغات بشكل عام, واختلاف المفردة الدالة على الشيء الواحد, فمثلا الشقيقة تسمى في العربية ب “أخت” وفي الانجليزية ب “سِستر”, وفي الألمانية “شفستر”, ولو كان هناك علاقة لما اختلفت الأسماء ولوجدنا أن الأشياء تحمل نفس الأسماء في كل اللغات –هذا إن وجدت لغات أصلا, فالمفترض أن البشر كلهم سيتكلمون لغة واحدة-.
وأدلي بدلوي في المسألة فأقول:
لا خلاف أن اللغة تنمو مع الزمان, فتكتسب مفردات جديدة وكذلك تعبيرات وتركيبات جديدة , وتُحمّل المفردات الموجودة دلالات زائدة عن تلك التي كانت حاملة لها عندما “وُضعت”, ومن ثم فإذا عدنا بالزمن إلى الوراء لآلاف السنين فإن عدد المفردات سيقل وكذلك ستقل “الدلالات” التي تحملها تلك المفردات.
ولا خلاف كذلك أنه لا توجد لغة بلا “نظام”, ففي كل اللغات هناك “نظام” ما سائد فيها, فاللغة ليست مجرد مفردات مستخدمة, فهناك مثلاً ترتيب معين للجملة تصبح به جملة خبرية وبترتيب آخر تصبح سؤالاً أو أمراً وهكذا, كما أن “المفردات” تتحور داخل الجملة (تصريف الفعل تبعاً لفاعله, الضمائر الشخصية في حالة الفاعل أو المفعولية … الخ), وسواء أأفلح علماء اللغة في استخراجه وتدوينه أم لما يفعلوا بعد, فإن العوام يدركون ويلحظون هذا “النظام” بدون أن يذهبوا إلى المدارس, ومن ثم يستخدمون اللغة فيما بينهم بشكل سليم .
ولا خلاف كذلك أن اللغة تنمو بمعدلٍ جد بطيء, فلم يحدث أن اخترع جيلٌ لغة ما, وإنما كلٌ يضيف إلى اللغة الموروثة الجزء اليسير مثل ابتكار مفردة أو تعبير وما شابه ومع مرور الزمن تتراكم هذه التعبيرات. ولا خلاف كذلك أنه ثمة “ثوابت” في اللغة, فمن الممكن أن أنشأ مفردة جديدة للسيف أو للناقة أو للسروال مثلاً, ويتقبل المجتمع هذا بكل يسر ويستخدمه, ولكن من العسير جدا تغيير المفردات الرئيسة مثل: أنا ونحن وأنت وهم وهي وهو, أو حروف “الأدوار”
فمثلاً: الياء يدل على المضارعة وعلى الغيبة: يلعب آدم بالكرة, فمن غير المقبول أن استخدم حرف النون مكانه, لأنه مستخدم مع الجمع! وكذلك من غير المقبول أن استخدم حرف “السين” مثلاً فأقول: سلعب آدم بالكرة! حتى أننا –وفي كل اللغات- عندما نستورد فعلاً ما من لغة أخرى نخضعه ل “قوالبنا” اللغوية, فنقول مثلاً: الكمبيوتر “بيهنج ” واتصلت بيه وهو “بيكنسل”, وبدون حروف المضارعة لن أفهم أن هذا فعلاً مضارعاً أصلاً, والتاء هي للتأنيث ولا يمكن استبدالها بحرف آخر, وهناك حروف معينة للجمع وهكذا.
و “القوالب” اللغوية كثيرة, مثلاً قالب اسم الفاعل أو المفعول وظرف الزمان والمكان والتكرار والجموع, فعندما نبتكر –أو نقتبس- كلمة جديدة نضعها في هذا القالب لنشير إلى هذا المعنى , فلكي أفهم السامع أن الشيء وقع عليه الفعل لا بد أن أضعه على وزن مفعول أو “متفعّل” في العامية المصرية, مثلما فعلنا مثلا مع المفردة “هاكر” المأخوذة من الانجليزية, فنقول مثلا على الكمبيوتر “متهكّر”
وكذلك “متنظم”, وعندما أريد إلى المبالغة والقوة لا بد أن نستخدم وزن “فعّال” مثل: سواق وقتّال –في العامية المصرية كذلك وزن: فعّيل, مثل: شبّيح-, والعرب مثلاً يشتقون لابتكار مفردة جديدة تابعة للمفردة السابقة بينما يميل غير العرب إلى التركيب و “اللزق”, فيضيفون مفردة أو بادئة أو لاحقة إلى المفردة ليضيفوا إلى الكلمة الأصل معنى جديد, وهكذا تُخضع المفردات الجديدة للقوالب حتى توصل هذه الدلالات.
ولا خلاف كذلك أن اللغات تستعير مفردات من بعضها بعضا, وقد يتم قولبة هذه المفردات وتحويرها لتتناسب مع قوالب اللغة المستعيرة, وقد تبقى كما هي لأنه ليس ثمة حاجة لتحويرها, ولا يقتصر الأمر على القولبة وإنما يتعداه كذلك إلى “التحريف”, فقد يغير المقتبس ترتيب حروف المفردة لتسهيلها على لسانه, فوجدنا أن “لتر” أصبحت “رطل”, و”اليكساندر” أصبح “الاسكندر”, وقد يغير كذلك النطق لأقرب حرف لها, فالغربي الذي لا ينطق حرف القاف, سيحول “قمرة” إلى “كاميرا”, والعربي الذي لا ينطق الألف الممالة سينطقها قوية مفخمة (قارن مثلا النطق الانجليزي ل: سارة, والنطق العربي لها ).
ولا يقتصر التحريف على النطق والقولبة وإنما يتعداه كذلك إلى الدلالة, فقد تكون المفردة تُستخدم بدلالة معينة عند مبتكرها ويستخدمها الناقل بدلالة أخرى لعدم فهمه أو تصوره للمدلول السليم الكامل للمفردة
فمثلاً لاحظت أن مدلول الانترنت عند ابنتي الصغيرة هو اليوتيوب, وذلك لأن احتكاكها به يكاد يقتصر على هذا الموقع, ومن ثم تم تقزيم وتحجيم دلالة المفردة, وهو ما حدث ويحدث عند انتقال المفردات من لغة لأخرى, واستخدامات المفردات العربية في اللغة الفارسية واللغة التركية خير مثال عظيم كبير على التشوه الدلالي عند انتقال مفردة من لغة لأخرى.
وبعد هذه المقدمة الطويلة التي واصلنا فيها إكمال مشهد “التسمية” تاريخيا وكيف تُسمى الأشياء, نستطيع أن نجزم بأن التسمية قد يشوبها بعض التشوهات, إلا أن الواضح أن هناك مسارات معينة تسير المفردات تبعا لها لتدل على دلالات معينة!
قد يقول القارئ: بالتأكيد ليس هذا موطن الخلاف وإنما موطن الخلاف علاقة الأصوات بالأشياء, هل لاحظ البشر الأوائل سمات معينة دفعتهم لاستخدام حروف معينة دون غيرها. فنقول:
أولا: هناك من الباحثين اللغويين –غير ذوي شهرة دو سوسير- من استخرج دلالات للأصوات من خلال تتبعهم للمفردات التي وردت بها, فقدموا دلالات للحروف, مثل الباحث سامر الإسلامبولي والذي قال مثلاً:
” دلالة أصوات الأحرف العربية فيزيائياً
1 ـ أ: صوت يدل على قطع خفيف.
2 ـ ب: صوت يدل على جمع متوقف.
3 ـ ت: صوت يدل على دفع خفيف متوقف.
4 ـ ث: صوت يدل على دفع خفيف ملتصق.
5 ـ ج: صوت يدل على جهد وشدة.
6 ـ ح: صوت يدل على تأرجح شديد وسعة.
7 ـ خ: صوت يدل على رخاوة وطراوة.
8 ـ د: صوت يدل على دفع شديد متوقف.
9 ـ ذ: صوت يدل على دفع وسط ملتصق.
10 ـ ر: صوت يدل على تكرار.
11 ـ ز: صوت يدل على بروز متواصل.
12 ـ س: صوت يدل على حركة متواصلة غير محددة.
13 ـ ش: صوت يدل على انتشار وتفشي.
14 ـ ص: صوت يدل على حركة محددة متصلة.
15 ـ ض: صوت يدل على دفع شديد جدَّاً متوقف.
16 ـ ط: صوت يدل على دفع وسط متوقف.
17 ـ ظ: صوت يدل على بروز خفيف ملتصق.
18 ـ ع: صوت يدل على عمق.
19 ـ غ: صوت يدل على غموض أوغياب.
20 ـ ف: صوت يدل على فتح خفيف منضم.
21 ـ ق: صوت يدل على قطع أو وقف شديد.
22 ـ ك: صوت يدل على قطع أو ضغط خفيف.
23 ـ ل: صوت يدل على حركة بطيئة متصلة لازمة.
24 ـ م: صوت يدل على جمع متصل.
25 ـ ن: صوت يدل على ستر أو اختباء.
26 ـ ه: صوت يدل على تأرجح خفيف.
27 ـ آ: صوت يدل على امتداد واستقامة.
28 ـ و: صوت يدل على ضم ممتد.
29 ـ ي: صوت يدل على جهد خفيف ممتد.”
وطبق هذا على بعض المفردات, فقال: “مثلاً : كلمة ( كت ) تدل على قطع أو ضغط خفيف وتنتهي بدفع خفيف متوقف. ونستخدم ذلك في حياتنا المعيشية بصُورة: كت الماء في إناء آخر. لاحظ عملية الكت للماء كيف تتم في الواقع.
وإذا أسرعت في عملية الكت إلى درجة كبيرة وبدفعة واحدة نلاحظ أن وصف العملية قد تغير من كلمة (كت) إلى كلمة (صب) فإذا أضفنا حرف (ب) إلى كلمة (كت) تصير (كتب) ونكون قد انتقلنا من دلالة فطرية إلى دلالة اجتماعية، ومن دلالة صوتية إلى دلالة وظيفية، وهذه نقلة عظيمة وكبيرة
لذلك يرى القارئ للوهلة الأولى صُعُوبة الرّجوع من الحياة الاجتماعية إلى الحياة الفطرية وبالتّالي تضيع الرّوابط بين الكلمات، وتضيع أصولها” اهـ
وهذه محاولات لا تزال بكراً في مهدها وأرى أنها لا تزال بحاجة إلى مزيد بحث ودعم ونظر! وبعدها ستكون بإذن الله نقلة نوعية في دراسة اللغة, ولا يفوتنا في هذا المجال أن نُذكر بكتابات: عالم سبيط النيلي, رحمه الله, حول اللغة القصدية وكيف انتقد الاعتباطية, فكتاباته مفيدة لكل من يرغب في الاستزادة.
_______________
*على سبيل المثال يلحظ الطفل الصغير في اللغة العربية أن هناك “تاء” تضاف للصفات عند وصف الأنثى, ومن ثم نجد أن كل الأطفال بلا استثناء يقولون في مقتبل عمرهم “أخضرة, أحمرة, أصفرة”, لأنهم لما يعلموا بعد بوجود قاعدة فرعية لهذا النوع من الصفات, ومثلاً في العامية المصرية
يستخدم كل المصريين صيغة “فعّول” للتدليل, فيقال: فلانة “قمّورة” (من: قمرة) ودبدوبة وقلبوظة (إشارة إلى سمن مقبول للجسد) ويقال: لذّوذ, وحتى: عبّوط!! ولو سألت أي مصري ما هي صيغة التدليل لما استطاع أن يجيبك, لأنه يستخدمها ولكن لم “تُقعد” له!
** لاحظ أن المصريين يضيفون حرف الباء قبل الفعل المضارع دوما, وهو ما فعلناه هنا فقمنا بإضافة حروف المضارعة الفصيحة وحرف الباء المصري.
*** ومن القوالب كذلك أوزان الفعل, ف “العوام” بدون أن يدرسوا صرفا يلاحظونها, فنجدهم مثلا عندما استوردوا المفردة “دبل” من الانجليزية, واستخدموها كفعل قالوا “بيدبّل”, فشدودا الباء لأن هذا الوزن غير موجود لديهم, ومن ثم حولوه لوزن موجود مستخدم!! وكذلك الحال مع المفردة “سكس”, فقالوا: فلان “بيسكسك” ولم يقولوا: “بيسكس” لأن هذا الوزن غير مألوف لديهم!
أما ما أراه أنا حاسماً في مسألة الضرورية والاعتباطية في العلاقة بين الدال والمدلول فهو كيف ظهر الدال اللغوي “المجسد” للمدلول الواقعي؟
ففي الواقع لا نجد الأشياء منفصلة عن بعضها في خانات/ مسارات مستقلة, وإنما نراها متصلة ومتفاعلة بدرجة ما, ومن ثم فهناك علاقات بين الأشياء وبعضها مثل الفاعلية والانفعال (التأثير والتأثر) وجدليات كثيرة في الطبيعة نراها بأعيننا, وهناك التشابه بين الأشياء وكذلك التضاد, والاشتراك في عرض ما مثل اللون أو الحركة, وهناك الاتفاق في الوظيفة وإن اختلفت الهيئة, .. الخ,
فهل أفلح الدال في إظهار هذه العلاقات والملامح في اللغة أم لا, بعبارة أخرى: هل أفلح في بناء “عالم” مواز “مماثل” لعالم الواقع؟! إن وجود “تماثل” بدرجة كبيرة بين الدوال والمدلولات في لغة ما لهو دليل قاطع على سيرورة “سليمة” لعملية التسمية في هذه اللغة, نابعة من إبصار قويم للكائنات, بينما غيابها يدل على عدم إبصار البشر “المسمين” بدرجة كبيرة لسمات الأشياء, ومن ثم فهو يشير إلى “عمه” وليس إلى اعتباطية!
وأنا وإن كنت ألحظ ملامح نظام في اللغة الألمانية إلا أني لم استقص المسألة, ومن ثم فسأتحدث عن اللغة العربية, فأقول: مسألة “المناسبة” بين الدال والمدلول من المسائل التي تكلم فيها اللغويون العرب قديما, وتناولها أكثر من عالم من زاوية, ومن أبرز من تكلم في المسألة ابن جني في كتابة “الخصائص”
وفي منظوري أهم ما قدمه ابن جني كان مسألة “الاشتقاق الأكبر”, حيث رأى أن المفردات التي تشترك في حروفٍ ما, وإن اختلفت في الترتيب فإنها تدل على مدلول واحد أكبر مشترك وأفرد بابا خاصا لهذه المسألة في كتابه الخصائص قدم فيه العديد من الأمثلة على ذلك, ومن هذه الأمثلة:
أ – (كلم): وتقليباتها: كمل، مكل، ملك، لكم، لمك، – وتفيد كلها معنى (القوة والشدة).
ب – (قول): وتقليباتها: قلو، وَقَل، وَلَقَ، لقو، لوق – وتفيد كلها معنى: (الإسراع والخفة).
ج – (جبر): وتقليباتها: جرب، بَجر، بَرَجَ، رجب، ربج – وتفيد كلها معنى (القوة والشدة).
د – (قسو): وتقليباتها: قَوَس، وَقَسَ، وَسق، سوق، سقو – وتفيد كلها معنى (القوة والاجتماع).
هـ – (سمل): وتقليباتها: سلم، مسل، ملس، لمس، لسم – وتفيد كلها معنى (الإصحاب والملاينة).
ووجود مثل هذه الظاهرة في اللغة تعني أن الأقدمين وجدوا في هذه الأشياء والأحداث سمات مشتركة دفعتهم –لا شعوريا- أن يعطوها نفس الحروف وإن اختلف ترتيبها.
إلا أن ابن جني نفسه لم يزعم أن هذا مضطرد في كل اللغة, ورأى أن هذه “ظاهرة” من ظواهر اللغة موجودة, ويُحسب لابن جني شقه لهذا السبيل, الذي ضعف كثيرون على مواصلة المسير فيه.
وممن سلكوا سبيلاً آخر في إبراز العلاقة بين الدال والمداليل المختلفة, الإمام أحمد بن فارس وذلك في معجمه البديع: “مقاييس اللغة”, والذي لم يعمل فيه على “ترجمة” المفردات, وتقديم المعاني المختلفة لها, مثلما فعل ابن منظور في “لسان العرب”, فتبحث تحت مفردة ما مثل “علم, سبح, ضرب”, فتجد الكثير والكثير من المدلولات, التي تعجب كيف أن كل هذه الأشياء حملت نفس المفردة.
بينما عمل ابن فارس على رد هذه المعاني/ المدلولات المختلفة التي تحمل مفردة واحدة إلى معنى أكبر مشترك –لاحظه العرب الأوائل, ودفعهم هذا إلى إطلاق نفس الاسم على هذه المدلولات المختلفة-, فعندما تناول مثلاً الأصل “ع ض ل” قال:
“(عضل) العين والضاد واللام أصلٌ واحد صحيح يدلُّ على شِدّةٍ والتواءٍ في الأمر. من ذلك العَضَل، قال الأصمعيّ: كلُّ لحمةٍ صُلْبَةٍ في عَصَبَةٍ فهي عَضَلة. يقال: عَضِل الرّجلُ يَعْضَل عَضَلاً. ومن الباب: هو عُضْلَةٌ من العُضَل، أي مُنكَر داهية. وهو من القياس، كأنَّه وصف بالشِّدَّة. والعضل من الرِّجال: القويّ. ومن الباب: الدّاءُ العُضَال، الأمر المُعْضِل، وهو الشَّديد الذي يُعيِي إصلاحُه وتدارُكُه. ويقال منه أعْضَلَ. ويقال إنَّ ذا الإصبع تزوَّجَ امرأةً، فأتى قومَه يسألهمْ مَهرَها فلم يُعطُوه فقال:
واحدةٌ أعْضَلَكم أمرُها *** فكيف لو دُرْتُ على أرْبَعِ)
يقول: عَجَزتم عن مَهْرِ واحدةٍ فكيف لو تزوَّجتُ بأربع. يقال: أعضلَه الأمرُ وأعْضَلَ به. وقال عمر: “أعْضَلَ بي أهلُ الكوفة ما يرضَوْن بأمير، ولا يَرضاهم أمير”، أي أعياني أمرُهم. والمُعْضِلات: الشدائد. ويقال: عضّلتُ عليه، أي ضيَّقتُ في أمره. وعَضَلْتُ المرأةَ عَضْلاً، وعَضَّلْتُها تعضيلاً، إذا منعتها من التزوُّج ظُلماً. قال الله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة 232]، أي تحبِسُوهنّ. ويقال عَضَّلَتِ المرأة، إذا نَشِب الولدُ في رَحِمِها فلم يَسْهُل مَخرجُه. وشاةٌ معضِّلة وغنم مَعَاضيل. [و] عضّلت الأرضُ بأهلها، أي غصَّت بهم وضاقت لكثرتهم. قال أوس:
ترى الأرضَ منّا بالفَضاءِ مريضةً *** مُعضِّلة مِنَّا بجمعٍ عَرَمْرَمِ
ويقال سنة عِضْل: عسيرة. قال:
* فيا للنَّاس للسَّنة العِضْلِ *
قال الفرّاء: ما يأتِينا خيرُ فلانٍ إلاّ مُعْضِلاً، أي في التواءٍ ونكَد. وعَضَل: قبيلةٌ، وهو من هذا.” اهـ
وللأسف الشديد فإن هذه الصنف من المعاجم لم يكتب له الانتشار, لأن إنشائه يحتاج لعظيم تفكر ونظر, بينما يكفي لإنشاء المعاجم القائمة على ذكر المعاني المختلفة مجرد التجميع! لهذا لم يخلف أحد ابن فارس حتى الآن في العربية في إنشاء معجم على هذا المنوال, وأرجو أن يأتي من يكمل المسير على الدرب.
وعلماء العربية وإن كانوا قد قصروا في هذا المنظور, فإنهم انتبهوا ونبهوا على إعطاء العرب للأحداث المتشابهة مفردات متشابهة, تختلف قوة وضعف/ ليونة حروفها, تبعاً لشدة الحدث نفسه ولضعفه, فمن ذلك:
“قال ابن جني: ومن ذلك قولهم: قَرَتَ الدمُ، وقرِد الشيء وتقرَّد، وقَرَط يَقْرُط، فالتاء أخفت الثلاثة، فاستعملوها في الدم إذا جَفَّ؛ لأنه قَصْد ومستخَفّ في الحِسّ عن القَرْدَد الذي هو النبَاك في الأرض ونحوها، وجعلوا الطاء – وهي أعلى الثلاثة صوتًا – (للقرط) الذي يسمع.
ومن ذلك قولهم:
الوَسِيلة والوَصِيلة، والصاد – كما ترى – أقوى صوتًا من السين؛ لما فيها من الاستِعلاء،
والوَصِيلةُ أقوى معنًى من الوسيلة، وذلك أن التوسُّل ليست له عِصْمة الوصل والصلةِ، بل الصلة أصلها من اتِّصال الشيء بالشيء ومماسَّتِه له، وكونه في أكثر الأحوال بعضًا له، كاتِّصال الأعضاء بالإنسان وهي أبعاضه ونحو ذلك، والتوسُّل معنى يضعف ويصغر أن يكون المتوسِّل جزءًا أو كالجزء من المتوسَّل إليهِ، وهذا واضح، فجعلوا الصاد لقوَّتِها للمعنى الأقوى، والسين لضعفها للمعنى الأضعف.
: ومن ذلك قولهم:
صعِد وسعِد، فجعلوا الصاد – لأنها أقوى – لما فيه أثر مشاهَد يُرىَ، وهو الصعود في الجبل والحائط ونحو ذلك، وجعلوا السين – لضعفها – لما لا يظهر ولا يشاهَد حِسًّا، إلا أنه مع ذلك فيه صعود الجَدِّ، لا صعود الجِسم، ألا تراهم يقولون: هو سعيد الجَدِّ، وهو عالي الجَدِّ، وقد ارتفع أمره وعلا قَدْره، فجعلوا الصاد لقوَّتِها مع ما يشاهَد من الأفعال المعالَجة المتجشَّمة، وجعلوا السين لضعفِها فيما تعرفه النفس، وإن لم تَره العين، والدلالة اللفظية أقوى من الدلالة المعنوية… فالأَثر فيها أقوى فكانت بالحرف الأقوى – وهو الصاد – أحرى.
ومن ذلك أيضًا سدّ وصدّ، فالسُّدُّ دون الصُّدِّ؛ لأن السدَّ للباب يُسدُّ، والمَنظَرة ونحوها، والصُّدّ جانب الجَبَل والوادِي والشِّعْب، وهذا أقوى من السدِّ، الذي قد يكون لثَقْب الكُوز ورأس القارورة ونحو ذلك، فجعلوا الصاد لقوَّتِها للأقوى، والسين لضعفها للأضعف.
ومن ذلك القَسْم والقَصْم، قالقَصْم أَقوى فِعْلاً من القسم؛ لأنَّ القصم يكون معه الدقُّ، وقد يقسم بين الشيئين فلا يُنْكأ أحدهما، فلذلك خُصَّت بالأقوى الصادُ، وبالأضعف السينُ.
(ق ط ر)، و(ق د ر)، و(ق ت ر)ومن ذلك تركيب:
، فالتاء خافية متسفّلة، والطاء سامِية متصعّدة، فاستُعمِلتا – لتعاديهما – في الطَّرَفين، كقولهم: قُتْر الشيء وقُطْره، والدال بينهما، ليس لها صعود الطاء، ولا نزول التاء، فكانت لذلك واسطة بينهما، فعبَّر بها عن معظَم الأمر ومقابلته، فقيل: قَدْر الشيء لِجماعِه ومحر نَجمهِ، وينبغي أن يكون قولهم: قَطَر الإناءُ الماءَ ونحوه إنَّما هو (فَعَل) من لفظ القُطْر ومعناه؛ وذلك أنه إنَّما ينقط الماءَ عن صفحته الخارجة وهي قُطْره، فاعرف ذلك
“الغريب المصنَّف”وفي
عن أبي عَمْرو: “هذا صَوْغُ هذا، إذا كان على قَدْره، وهذا سَوْغُ هذا، إذا وُلِدَ بعد ذاك على أَثره, ويقال: نَقَبَ على قومه ينقُب نِقابةً من النَّقيب وهو العَرِيف، ونكَب عليهم ينكُب نِكابةً، وهو المَنْكِب، وهو عَون العَرِيف.
وقال الأصمعي: الهَتْل من المطر أصغرُ من الهَطْل”.
في الجمهرة:
• والجَمْجَمَة بالجيم: أن يُخْفِي الرجلُ في صدره شيئًا ولا يُبْدِيه، والحَمْحَمَةُ بالحاء: أن يردِّد الفرسُ صوتَه ولا يَصْهَل.
• والدَّحْدَاح بالدال: الرجل القصير، والرَّحْرَاح بالراء: الإناء القصير الواسع.
• والحَفْحَفَةُ بالحاء: حفيفُ جَنَاحي الطائر، والجَفْجَفَةُ بالجيم: هَزِيز المَوْكِب وحَفِيفُه في السير.
• ورجل دَحْدَح بفتح الدالين وإهمال الحاءين: قصير، ورجل دُخْدُخ بضم الدَّالين وإعجام الخاءين: قصيرٌ ضخْم.
• والسَّغْسَغَةُ بإهمال السين: تحريك الشيء من موضعه؛ لِيُقْلَعَ مثل الوَتَدِ وما أشبهه، ومثل السن، والشَّغْشَغَةُ بالإعجام: تحريك الشيء في موضعه؛ ليتَمكَّن، يقال: شَغْشَغ السِّنان في الطَّعْنة إذا حرَّكه؛ ليتمكّن.
• والوَسْوَسَةُ بالسين: حركة الشيء كالحَلْي، والوَشْوَشة بالإعجام: حركة القوم، وهَمْسُ بعضِهم إلى بعض.
وفي “فقه اللغة” للثعالبي:
إذا انْحَسَرَ الشَّعرُ عن مقَدَّم الرأسِ، فهو أَجْلَحُ، فإن بلغ الانحسارُ نصف رأسِه، فهوَ أَجْلَى وأَجْلَه, وفيه: النَّقْشُ في الحائط، والرَّقْشُ في القِرْطاس، والوَشْمُ في اليد، والوَسْمُ في الجِلْدِ، والرَّشْمُ على الحِنْطَة والشَّعير، والوَشْيُ في الثوب, وفيه الحَوَص: ضِيقُ العينين، والخَوَص غُؤُورُهُما مع الضِّيق.
وفيه: اللَّسْب من العقرب، واللَّسع من الحية.
وفيه: وسَخُ الأُذنِ أُفٌّ، ووسَخ الأظفار تُفٌّ.
وفيه: اللِّثَامُ: النِّقاب على حَرْف الشَّفة، واللِّغَامُ على طرف الأنف.
وفيه: الضَّرْب بالرَّاحة على مُقَدَّم الرأس: صَقْعٌ، وعلى القَفَا: صَفْعٌ، وعلى الخَدِّ بِبَسْطِ الكَفِّ: لَطْمٌ، وبقَبْضِ الكَفِّ: لَكْمٌ، وبِكلْتَا اليَدَيْنِ: لَدْمٌ، وعلى الجَنْبِ بالإصْبَعِ: وَخْزٌ، وعلى الصدْر والجَنْبِ: وَكْزٌ ولَكْزٌ، وعلى الحَنَكِ والذَّقَنِ: وَهْزٌ ولهْزٌ.
وفيه يُقَالُ: خَذَفَه بالحَصى، وحَذَفَه بالعصا، وقَذَفَه بالحجر ” اهـ
(الأمثلة السابقة منقولة من مقال ل د بليل عبد الكريم بعنوان: المناسبة بين اللفظ والمعنى, موجود على موقع: الألوكة)
ومن ذلك التشابه بين: الفلق والفرق والفتق! ونطلب إلى القارئ أن يستحضر الفرق بين مداليل كل كلمة في ذهنه, كيف يُفلق الشيء وكيف يُفرق وكيف يُفتق! ويلاحظ كيف أن حرفا واحدا في منتصف الكلمة هو الذي أظهر هيئة هذا الخلاف.
“غفر” و “كفر” كلاهما يدل على التغطية والستر مع خلاف بسيط ظهر في استعمال الغين في كلمة والكاف في الكلمة الأخرى.
“جمل” و “كمل” –لاحظ التقارب بين الجيم والكاف في النطق- فالجميل لا محالة كامل, ولكن لما كان في الجمال صفة زائدة عن الكمال, استعمل الحرف المناسب وهو الجيم, أما الكامل فقد يكون على الرغم من كماله غير جميل !
وكذلك “خنس” و “كنس” فكلاهما يدل على الاستخفاء والتستر, ولكن قد يأتي الكنس بمعنى الكشف!
“دق” و “رق”, “دق” و “دك”, “شطر” و “فطر”, “دفع” و “دفق”.
وليست كل الكلمات المتقاربة المباني متقاربة المعاني, فقد يأتي حرف يحمل صفات مختلفة فيغير معنى الكلمة تماما, مثل: “فتق و رتق”, فالفتق عكس الرتق.
ونعتذر من القارئ في الإطالة في النقل, ولكن كان لا بد من تقديم العديد من الأمثلة التي تبرز كيف أن الأسماء لم تصدر من العرب هكذا اعتباطاً وإنما عن إبصار ل “صورة” الشيء أو الحدث, وملاحظة التشابه بينه وبين قريبه, وزيادة سمة معينة في أحدهما أو قوتها, ومن ثم عند إطلاقهم الأسماء (والتي هي مجموعة أصوات) أخرجوها –بدرجة كبيرة- متشابهة مع الواقع.
وهنا لا بد أن ننبه إلى نقطة جد هامة في عملية التسمية, وهي أن عوام “العرب” أو “الألمان” أو “الأسبان” لم يكونوا يسمون!! فلم تكن المفردات تصدر من العوام, فهم في الغالب أضعف من أن يُنشئوا كلمة جديدة
وإنما “المبصرون” الأقوياء لساناً ومكانة –الشعراء, أرباب الحرف, الكهان, شيوخ القبائل وما شابه- هم من كانوا يبتكرون المفردات الجديدة أو حتى ينقلونها من لغة/ حضارة أخرى ويُدخلونها إلى مجتمعهم, وإن حدث وأنشأ “الحرافيش” –نعتذر من الوصف- مفردة جديدة فغالبا ما تقتصر عليهم
وإن حدث وتجاوزتهم فإنها لا يُكتب لها الاستمرار وغالبا ما تموت بعد فترة (وهو ما شاهدناه ونشاهده مثلا في مجتمعنا المصري في عصرنا الحديث, فكم من كلمة ظهرت في الفترة الأخيرة بسبب جملة قيلت في فيلم أو ما شابه, وماتت بعدها), وتبعاً لكون المفردات تنشأ من “عارفين”, فهذا يعني مصنوعة على “بصيرة” وليس: اعتباطا!!
ومن كُتاب العصر الحالي, الذين ركزوا على جانب آخر من جوانب اللسان العربي: محمد عنبر-رحمه الله-, والذي أبدع في كتابه: جدلية الحرف العربي وفيزيائية الفكر والمادة, (وهو كتاب جدير بالقراءة), والذي بيّن فيه بأمثلة عديدة, الجدلية الموجودة داخل المفردة العربية, والتي تعكس الجدلية الموجودة في الواقع, ومن أهم ما ركز عليه مسألة: المعنى الأصل للمفردة, وكيف تكتسب معاني لاحقة تابعة
وكذلك مسألة تشابه الأضداد, وكيف أن الأضداد وإن كانت مختلفة إلا أنها تُعتبر انعكاس لها في المرآة, فبداية اليوم: الشروق, تشبه نهايته: الغروب, وبدون الساعة قد يلتبس الأمر على المشاهد, والحياة تبتدأ بضعف وتنتهي به
والنعاس: الدخول في النوم, مشابه للاستيقاظ: الخروج من النوم, حيث يكون الإنسان في كلتا الحالتين في حالة عدم تركيز .. الخ , وقدم أ. محمد عنبر في كتابه العديد من الأمثلة التي تظهر كيف أن العرب جسدوا “انعكاس” الأحداث بعكس الحروف, فمن ذلك مثلاً:
ك ت ب (أصل يدل على الجمع) عكس حروفه: ب ت ك أصل يدل على القطع
ع ش ق أصل يدل على التعلق والارتباط, ق ش ع أصل يدل على الانفصال
ف ا ض أصل يدل على الزيادة, ض ا ف أصل يدل على النقص والاحتياج
“مرض” و “ضرم” فالمرض خمود وضعف والضرم قوة واشتعال, فالنار تمرض حين تخبو وتخمد وتقوى حين تضرم وتتقد. “فاض” و “ضاف”:
فالفيض خروج وابتعاد عن الشيء والإضافة ضم إليه. “كور” ضد “وكر” فالوكر شيء مجوف والكرة شيء محدب . “رضع” عكس “ضرع” فإن الارتضاع أخذ والضرع عطاء. “داس” عكسها مبنى و معنى “ساد”, “وسد” و منها الوسادة عكسها مبنى ومعنى “سود”. “فرش” عكسها “شرف”, “مزح” عكسها “حزم”, ومن ذلك قشر ورشق, سفر و فسر, جدل ودجل, وبما أننا نتكلم عن الاعتباطية, فإن ع ب ط عكس طبع.
وأعتقد من خلال هذه الأمثلة الكثيرة أن القارئ قد بدأ يستشعر الارتباط البديع للساننا العربي مع الواقع, وأن الحديث عن الاعتباطية يُعتبر نوعا من التعامي عن هذا “التعالق” البديع.
وهنا لا بد أن ننبه إلى أن أصل المشكلة أنه تم وضع الاعتباطية مقابل الضرورية وليس الطبيعية! ف “الطبيعية” تعني وجود علاقة بين الصورة الصوتية والكائن أو الحدث, ولا يعني ظهور هذا الدال الصوتي, أنه لا يمكن أن ينشأ دال صوتي آخر يميز/ يصف هذه الكائن من زاوية أخرى ومن منظور مختلف تماماً, ويكون كلا الدالين صالحين في تمييز الكائن/ الحدث, وإن كان أحدهما أكثر “صدقا/ دقة” في توصيف الكائن.
بينما الضرورية جبرية تحتم أن تُعكس/ تُجسد “صورة” الشيء أو الحدث في صورة صوتية واحدة, فإن حيد عنها كان هذا “التوصيف الصوتي” ضالاً/ خاطئا! وهذا غير سليم وغير منسجم مع الطبيعة نفسها ولا مع طبيعة الإنسان!! هذا بالإضافة إلى أن تسمية الأشياء لم تعد تقتصر على السمات الطبيعية للشيء, وإنما أصبح هناك العديد من العوامل التي تلعب دوراً في التسمية وهذا ما سنوضحه في السطور القادمة:
كما بيّنا في المقال السابق حول التسمية, فإن “المفردات الأوائل” التي سبقت وظهرت في أي لغة تلعب دوراً بارزا, لأنه تبعا لهذه المفردات وعلى منوالها سينسج أبناء الأجيال التالية, وتبعا لنسج الأجيال التالية والنظام الذي سيحدثونه سيقتفي اللاحقون أثرهم, سواء على مستوى المفردة أو الجملة,
ومن ثم فمن “الطبيعي” أن يختلف الناس في تسمية الأشياء لأن كل “جماعة” بشرية, هي امتداد لسابقين كان لديهم نظام لغوي معين, واللاحقون لا شعورياً ينسجون على نول السابقين.
ولأن اللاحقين ينشئون في نفس الجغرافية الطبيعية –والمناخ- التي نشأ فيها السابقون فإنهم يسيرون على دربهم كذلك في نطقهم للحروف وفي مخارجهم الصوتية, بينما يختلف الحال تماما مع من ينشئون في جغرافية أخرى تهيئهم للنطق بمخارج حروف أخرى, ويسيرون على درب سابقيهم الذين ابتكروا أسماءً للأشياء تبعاً لما يُسر لهم.
ولا يحدث الاختلاف في التسمية بين الجماعات المختلفة, وإنما قد “يوصف” الشيء الواحد لأهميته بأوصاف عديدة, ومع الوقت تصبح هذه الأوصاف أسماءً للشيء, وهو ما عُرف في اللغة باسم المترادفات, مثل: السيف الحسام (لأنه يحسم أي يقطع), المهند (القادم من الهند) الخ
ولا شك أن الأنظمة اللغوية ليست كلها سواء في القدرة على توليد المفردات وإنشاء مفردات جديدة, فهناك أنظمة ذات طبيعة معينة أدت إلى “عسر ولادة” المفردات, بينما لدى أنظمة أخرى طبيعة مغايرة مثمرة, تنتج الكثير والكثير من المفردات.
ولا يقتصر الأمر على اختلاف المنظور, وإنما يتعداه إلى إبصار الشيء أصلاً, فمن لم يبصر الشيء لن يعطيه اسما بأي حال, لأنه غير موجود لديه!! فالذي يعمل أو يلهو لساعات طويلة ويجني الكثير من الأموال ويستلذ بالطيبات غالبا ما سيخفى عليه الكثير من الأشياء, بينما الإنسان المحبوس في زنزانة صغيرة, يلتفت لكل صغيرة وصغيرة في هذه الحجرة!
وهذا ما كان مع العرب, فحبسهم في “السجن الصحراوي” الكبير, وطبيعة المناخ القاسية, والتي كانت تحتم عليهم “السكون” لفترات طويلة, وموارد الطبيعة الشحيحة, حتمت عليهم الانتباه لكل صغيرة ودقيقة محيطة بهم, حتى يتسنى لهم استخدامها في “معركة الحياة”, ومن ثم قام العرب بتوليد العديد والجديد من المفردات, حتى اتسع معجمهم اللغوي بقدر لا يدانيه معجم آخر.
ومما ينبغي التنبيه إليه أن دوسوسير ومن سار على دربه يضعون البيض كله في سلة واحدة, بينما يجب علينا التفريق بين مرحلة وضع المفردات (ثم) تكوين النظام, والمرحلة التالية لها, حيث ستكون العلاقة في المرحلة الأولى بين المفردة والشيء/ الحدث أكثر وضوحا وجلاءً لكونها علاقة “طبيعية” تبرز سمة الشيء نفسه, بينما في المرحلة الثانية وبعد تكون المجتمعات ونشأة علاقات اجتماعية ومهن جديدة
فإن التسمية تحولت في الغالب إلى “الذاتية”, حيث لم يعد الاسم المعطى للشيء/ للحدث مقتصراً على إبراز سماته كما هو, وإنما موقفه من الإنسان, فأصبحت التسمية تُعنى بإبراز دور هذا الشيء للإنسان, علاقته به, “وظيفته”, .. الخ.
ولم يقتصر الأمر على إقحام الإنسان “ذاته” عند تسمية الأشياء, وإنما تعداه إلى “اللغة” نفسها, فبعد أن نمت اللغة وتشعبت وتقولبت, وبعد ازدياد المعارف الإنسانية, ووصوله إلى شبه قناعة أنه ليس هناك جديد ابتداءً
وإنما الجديد استتباعا, وبعد عدد من المستجدات أصبحوا يرون الأشياء/ الأحداث من خلال اللغة نفسها, وتبعا للقوالب الموجودة فيها, والدالة مثلاً على الفاعلية أو المفعولية أو الانفعال أو الماضوية أو الاستمرارية أو التكرار أو الصغر أو العظم .. الخ, ومن ثم أخذوا في القياس على الموجود لديهم في النظام اللغوي, حتى أصبح من النادر أن يُنشأ أبناء الأجيال اللاحقة مفردة جديدة, وإنما مثلاً يقومون بتحميل مفردة دلالة جديدة, أو يقومون بإنشاء كلمة جديدة على “وزن” قديم موجود في اللغة بالفعل (أو تركيبة جديدة في اللغات اللصقية مثلاً) لتميز هذا الشيء,
فمثلاً عند اختراع آلة تكسر الثمار والبقول, فماذا نسميها, ماذا نسميها؟ آها, نسميها “كسّارة”, (وطبعاً وزن: فعّالة, ليس بالجديد في الإشارة إلى الآلة أو من يقوم بالفعل نفسه امتهانا أو ملازمة: فتاحة, خبازة, شغالة, طباخة, علامة … الخ)
ويمكنني الزعم أنه كما قاست الأجيال المتأخرة فإن البشر الأوائل كذلك قاسوا, ولكن ليس على النظام اللغوي الموجود لديهم, وإنما على الكائنات/ الأحداث الموجودة أمامهم, وإن ظاهرة مثل الاشتقاق في المفردات لدليل جلي على “تقليد الطبيعة”, فكما تتشعب الشجرة تتشعب المفردات.
ولم يقتصر الأمر على ظهور “نظام لغوي” سائد بين مجموعة البشرية, وإنما كان لتفريغ هذا النظام كقواعد وتعليمها للأجيال القادمة, واعتبار بعضها صحيحاً قياسيا معياريا وبعضها “شاذا” دوراً كذلك في موت واجتثاث “لغات/ لهجات” بأكملها!!
ولم يكن العلماء فقط هم “المميتين”, وإنما كان للعوام ورغبتهم في الاختصار واستخدام أقل قدر ممكن من المفردات من الأسباب التي أدت كذلك إلى إعطاء أكثر من شيء لاسم واحد, لاعتقادهم بالتشابه الشديد بين الشيئين! أو لعدم معرفتهم أصلا بالمفردة المخصصة الموجودة لهذا الشيء أو الفعل, ومن ثم تعميم استخدام مفردة أخرى تدل على شيء مشابهة!
في النهاية أقول:
من السهل أن تهدم أو أن تزعم أنه لا يوجد “نظام” أو قاعدة, ومن السهل أن تقول أنها “فوضى” أو “هي كده” كما يقول العوام, أما العلماء فلا يسمعون لهذا ويبحثون عن السبب أو عن العلل والكيفيات, إلا أنه وبكل عجب كان الحال هذه المرة استثناء, فلأن دوسوسير يجيد التصنيف, وأجاد عرض وتقديم حال اللغة, اقتنع التلاميذ بعده بما قال, وأصبحوا يدافعون عنه, وأصبحت الاعتباطية وبكل عجب جزء من العلم,
وبهذا أغلقوا الباب أمام كل باحث يريد أن ينظر ويقارن. وأرجو أن أكون قد وفقت في إظهار ملامح العلاقة بين الدال والمدلول وكيف أنها طبيعية وليست جبرية! وكيف تغيرت وتحولت عبر العصور, والأسباب التي أدت إلى التباين والاختلاف بين اللغات رغماً عن ارتباطها بالطبيعة!
وبالتأكيد هناك عناصر أخرى لعبت دوراً كبيرا في التسمية ونشوء اللغات واختلافها ولكنها كلها تدور في فلك “إبصار” سمات ما وتكون نظام ما, لذا فهي كلها في النهاية مؤيدة لما نقول, والله سبحانه أعلى وأعلم وهو الفتاح العليم.