نرث النساء وليس عين النساء!

حديثنا اليوم بإذن الله وعونه هو عن آية من آيات سورة النساء المتعلقة بحكم من أحكام النساء! فُهمت فهما عجيبا لا علاقة له بمفرداتها!, وقُدم هذا الفهم على أنه تفسير لمراد الله تعالى!
وهذه الآية هي قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء : 19]
ونتناول هذه الآية لنوضح أن كتب التفسير قاطبة قدمت فهما لا يُستخرج من الآية بحال! وعلى الرغم من مباشرة الآية ووضوحها إلا أن السادة المفسرين قاطبة فهموها فهما عجيبا لورود بعض الروايات التي وجهت أفهامهم إلى توجه بعينه, سار عليه كل من جاء بعدهم, مما حيرهم في فهم الآية وتوجيه مفرداتها!

ونبدأ أولا بعرض الرأي السائد, الذي قدمه المفسرون للآية –من خلال تفسير الإمام الفخر الرازي, والذي لا اختلاف بينه وبين غيره بشأن الآية- ثم نقدم فهمنا نحن للآية ناقدين تفسيراتهم!:

يقول الإمام الفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب:
“اعلم أنه تعالى بعد وصف التوبة عاد الى أحكام النساء، واعلم أن أهل الجاهلية كانوا يؤذون النساء بأنواع كثيرة من الايذاء، ويظلمونهن بضروب من الظلم، فالله تعالى نهاهم عنها في هذه الآيات.

فالنوع الأول: قوله تعالى: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في الآية قولان: الأول: كان الرجل في الجاهلية اذا مات وكانت له زوجة جاء ابنه من غيرها أو بعض أقاربه فألقى ثوبه على المرأة, وقال: ورثت امرأته كما ورثت ماله، فصار أحق بها من سائر الناس ومن نفسها، فان شاء تزوجها بغير صداق، إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها من إنسان آخر وأخذ صداقها ولم يعطها منه شيئا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وبين أن ذلك حرام وأن الرجل لا يرث امرأة الميت منه، فعلى هذا القول المراد بقوله: {أَن تَرِثُواْ النساء} عين النساء، وأنهن لا يورثن من الميت.


والقول الثاني: ان الوراثة تعود الى المال، وذلك أن وارث الميت كان له أن يمنعها من الأزواج حتى تموت فيرثها مالها، فقال تعالى: لا يحل لكم أن ترثوا أموالهن وهن كارهات. (…….)

النوع الثاني : من الأشياء التي نهى الله عنها مما يتعلق بالنساء قوله تعالى: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في محل {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } قولان: الأول: انه نصب بالعطف على حرف «أن» تقديره: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا أن تعضلوهن في قراءة عبدالله ، والثاني: أنه جزم بالنهي عطفا على ما تقدم تقديره، ولا ترثوا ولا تعضلوا. (هذا مردود بداهة للقول بمحذوف في القرآن وهو تقول لا دليل عليه –عمرو-)


المسألة الثانية : العضل: المنع، ومنه الداء العضال، وقد تقدم الاستقصاء فيه في قوله : { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أزواجهن } [ البقرة : 232 ] .
المسألة الثالثة : المخاطب في قوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} من هو؟
فيه أقوال: الأول: أن الرجل منهم قد كان يكره زوجته ويريد مفارقتها، فكان يسيء العشرة معها ويضيق عليها حتى تفتدي منه نفسها بمهرها وهذا القول اختيار أكثر المفسرين، فكأنه تعالى قال: لا يحل لكم التزوج بهن بالاكراه، وكذلك لا يحل لكم بعد التزوج بهن العضل والحبس لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن. الثاني: أنه خطاب للوارث بأن يترك منعها من التزوج بمن شاءت وأرادت، كما كان يفعله أهل الجاهلية وقوله: { لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ} معناه أنهم كانوا يحبسون امرأة الميت وغرضهم أن تبذل المرأة ما أخذت من ميراث الميت ، الثالث : أنه خطاب للأولياء ونهى لهم عن عضل المرأة، الرابع: أنه خطاب للأزواج, فانهم في الجاهلية كانوا يطلقون المرأة وكانوا يعضلونهن عن التزوج ويضيقون الأمر عليهن لغرض أن يأخذوا منهن شيئا، الخامس: أنه عام في الكل.

أما قوله تعالى : {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} ففيه مسائل:

المسألة الأولى: في الفاحشة المبينة قولان: الأول: أنها النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله، والمعنى إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع، ويدل عليه قراءة أبي بن كعب: إلا أن يفحش عليكم .
والقول الثاني: أنها الزنا، وهو قول الحسن وأبي قلابة والسدي.” اهـ

وبعد أن عرضنا لك أخي أقوال المفسرين في الآية نبدأ نحن بتقديم فهمنا لها, والذي لن يزيد بحال عن مفردات الآية, فلا يقدر محذوفا ولا يحتار في محل كلمة, ولا يؤدي إلى القول بالتكرار!

بادئ ذي بدأ نقدم لك أخي السياق الذي وردت فيه الآية:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً [النساء : 19-22]

الناظر في الآيات يجد أن السادة المفسرين قاطبة أوقعوا التشريع الإسلامي –بقولهم- في مأزق كبير, وهو زعمهم أن الإسلام يجعل النساء تركة مثل أي متاع يتركه الرجل! وذلك لأن الله تعالى –تبعا لقولهم- قال أنه لا يحل لنا أن نرث النساء كرها, ومن ثم فإنه يحل لنا أن نرثهن طوعا!- فإذا مات أخي مثلا وكانت امرأته تعجبني وأنا أعجبها! وأنا الوارث الوحيد لأخي فيحل لي أن أرثها, فلا كراهية في الموضوع, وإنما الأمر طواعية وموافقة! وهكذا تصبح المرأة زوجا لي بدون عقد جديد!!

ولا أعتقد أن أحدا يقول بهذا! وليس أمامهم للخروج من هذا المأزق إلا إلغاء “كرها” أو جعلها حشوا!

وهذه هي آفة الأخذ بالروايات, يُترك التدبر وتُتبع الروايات! فإذا خلت الآية منها أعمل الفكر! فالناظر يجد أنه لم يخطر ببال أحد السادة المفسرين عند تناولهم لقوله تعالى في آخر نفس السورة: “يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ ….. [النساء : 176]

أن المراد أن تصبح المرأة ميراثا لأخيها, وإنما فهموا قاطبة أن تركتها تصبح ميراثا له! وليت شعري ما الفارق بين آيتنا وآية آخر النساء؟!!! إن كلاهما تتحدثان عن إرثنا النساء, فكان من المفترض والبدهي أن تكون المرأة ميتة في الحالتين!
ولكن وللعجب أصبحت المرأة حية في الأولى وميتة في الثانية! تورث هي بذاتها في الآية الأولى وتورث تركتها في الآية الثانية! بدون أي فارق بين الاثنين في السياق إلا ورود الروايات العجيبة!

إن هذه الروايات من العجب بمكان, فمن قال أن المرأة العربية الحرة كانت تورث كما يورث المتاع؟!! فعلى الرغم من الإهانات التي كانت تتعرض لها, إلا أنها لم تصل إلى حد الاستعباد, فكانت المرأة الحرة تتمع بمكانة وحرية في التصرف! لا نقول أنها كبيرة ولكن لا تصل إلى حد الاستعباد! ثم من كان يرثها, هل كان السابق هو الذي يفوز بها؟!

إن الذي يعرفه أي عربي: أن قولي: ورثت فلانا, تعني أنه مات وورثت تركته, ولو كان الله يعني ما يقولون به لقال: لا يحل لكم أن ترثوا نساء موتاكم أو آباءكم! حتى نعرف أنهن بذواتهن من التركة, أما تبعا لنص الآية فلا يُفهم إلا أن المراد أن النساء متن ونحن نرث تركتهن!

وعلى هذا تُفهم الآية بكل بساطة, فالمعنى المراد هو أننا لا يحل لنا أن نكره النساء على أن يجعلن تركتهن لنا بعد موتهن, فيكتبنها لنا, كما لا يحل لنا أن نستولي على تركة المرأة فنمنع المستحقين للإرث من الوصول إلى حظوظهم.
والخطاب في هذه الآيات هو للأزواج الرجال بالمقام الأول –ويبعد أن يدخل فيه الآباء أو الأولياء-.

وبعد أن بيّن سبحانه أنه لا يحل لهم أن يرثوا النساء –بعد موتهن بداهة- كراهة, أكمل الأوامر المحسنة لحال المرأة, فقال: “وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ”
وهذه الجملة استئنافية غير معطوفة على السابقة لها, لأن الحديث في الجملة السابقة عن نساء ميتات, أما هنا فالحديث عن معاملة نساء حيات! ولقد اضطر السادة المفسرون إلى القول بمحذوف ليربطوا الجملتين, فتأمل!

فالله تعالى ينهى الرجال عن عضل النساء, وأصل العضل التضييق والحبس. والمشتهر بأنه منع المرأة الزوج! وعلى الرغم من ذلك فلقد وجدنا السادة المفسرين يفسرونه بأنه بمعنى إساءة العشرة,
كما قال الإمام الفخر:
“أن الرجل منهم قد كان يكره زوجته ويريد مفارقتها، فكان يسيء العشرة معها ويضيق عليها حتى تفتدي منه نفسها بمهرها وهذا القول اختيار أكثر المفسرين” اهـ

ولست أدري ما العلاقة بين فعلهم هذا والعضل! إن العضل هو التضييق والحبس, -والمنع من الزواج ضمنا-, فالرجل فعلا يكره المرأة ولكنه لا يريد أن يطلقها ويبقيها هكذا معلقة, فينهى الله عزوجل عن عضل المرأة لكي يأخذ الرجل شيئا مما آتاها, وذلك كما جاء في سورة البقرة:
الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ ….[البقرة : 229]”
فلا يحل أن نأخذ من النساء شيئا مقابل تطليقهن. إذا فلا يجوز العضل إلا أن تأتي المرأة بفاحشة مبينة, وهو الزنا, ففي هذه الحالة تسقط حقوق الزوجة عند زوجها, فيأخذ ما آتاها ويخرجها من بيتها!

وإذا كان قولهم هذا هو المراد من العضل, فما فائدة قوله تعالى: “وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ”, فعلى قولهم فالمعنى مفهوم من الكلمة السابقة, فلا حاجة إلى تكرارها هنا!

أما على قولنا فالمعنى أن الله تعالى ينهى الرجال عن عضل النساء ويأمر بمعاملتهن بالمعروف, والصبر عليهن.
ثم تواصل الآيات عرض بعض أحكام النساء, إلى أن تصل إلى قوله تعالى: “وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ”,

والذي يبين أن قولنا هو الصحيح وأن قولهم هذا ورواياتهم فاسدة, أو على أقل تقدير ليست هي المرادة من الآيات! فالله تعالى ينهانا عن أن ننكح ما نكح الآباء من النساء, ولو كان قولهم في إرث النساء محتملا, لكانت الآية تكرارا! فلقد قال هناك –على قولهم- أنه لا يحل لي أن أرث المرأة سواء كانت امرأة أبي أو أخي أو أي قريب فأتزوجها أو أزوجها غيري, وهو قول شامل, فلم التكرار هنا والنهي عن جزء مخصوص من الأحكام العامة الواردة في الآية الأولى؟! أما على قولنا التابع للسان فهذه في حكم وتلك في آخر.

نخرج من هذا كله أن فهمهم لورث النساء فهم عجيب مخالف للسان وللعقل وللتاريخ وللتشريع الإسلامي, الذي لا يجعل المرأة تركة بأي حال, وأن المراد من إرث النساء هو تركة النساء وليس أعينهن.
والله أعلى وأعلم والسلام عليكم ورحمة الله!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

التقديس لدرجة الهجران و التهميش

يقدس الناس في بلادنا العربية و الإسلامية الدين أيما تقديس و هذا أمر حميد في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.