يا أخت هارون!

حديثنا اليوم بإذن الله وعونه عن آية استغلها كثير من أعداء الدين في قولهم بأن القرآن يحتوي أخطاء تاريخية قاتلة, تخبر بأن محمد هو الذي كان يؤلف هذا القرآن لا أنه وحي إلهي!
وهذه الآية هي قوله تعالى:
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً [مريم : 28]
فيقولون: من المعروف أن موسى كان سابقا لعيسى بما يزيد عن الألف عام! وعلى الرغم من ذلك فلقد جعلت الآية مريم أختا لهارون, ولقد أكدت آية أخرى هذا المعنى, فقالت:
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [التحريم : 12]
فلما اتحد اسم الأب عند الاثنين: موسى بن عمران, ومريم بنت عمران, جعلهما محمد لجهله التاريخي أخوة” اهـ

ونقول: إن الآية والقرآن يردان قولكما, ولكن قبل أن نبين هذا نقول:
إن القول بأن جهل محمد التاريخي هو الذي جعله يقول هذا, هو قول عجيب! فأنتم تقولون أن محمدا سطا على التوراة والإنجيل وألف منهما القرآن! وهذا يعني أنه كان على دراية كبيرة بهذين الكتابين, فهل جهل هذا المُطلع الفارق الزمني الهائل بين الاثنين؟!
وبغض النظر عن إطلاع الرسول على التوراة والإنجيل فإن الفارق الزمني الكبير بينهما كان معروفا ومشتهرا عند العرب, ويستحيل أن يخفى هذا على من يحيى في مكة تحديدا, الملتقى الثقافي الفكري للعرب! فكيف يفوت هذا محمدا ويقول أن مريم أختا شقيقة لهارون؟!
والعجيب أن بعض الباحثين في القرآن جعل مريم أختا لموسى وهارون فعلا, وبرر ذلك بأن عمران كان من المعمرين, فعاش ما يزيد عن الألفي عام حتى أنجب عيسى ثم مات بعد ذلك!
ولست أدري ما الذي يمنع أن يكون حيا حتى الآن؟!!!
ويُرد على كليهما بالقول:
لو كان المراد أن مريم أختا شقيقة لهارون لكان من الأولى أن يقال: يا أخت موسى! فمن المعلوم أن موسى هو النبي الرئيس لبني إسرائيل, ولم يقم بعد موسى نبي مثله, فمن الأولى النسب إليه!

ونعود إلى الآية الكريمة لنوضح كيف أنه لا مستند لهم فيما يقولون:
لم تخف هذه الإشكالية عن المسلمين منذ العصور الأولى للإسلام, وأدلى المتدبرون فيها بدلائهم, وقدموا الإمكانيات الأربعة الممكنة بخصوص هذه الكلمة, والتي سنرجح إحداها, فقالوا –كما ذكر الإمام الفخر الرازي في تفسيره الكبير مفاتيح الغيب:
“وأما هرون ففيه أربعة أقوال: الأول: أنه رجل صالح من بني إسرائيل ينسب إليه كل من عرف بالصلاح، والمراد أنك كنت في الزهد كهرون فكيف صرت هكذا، وهو قول قتادة وكعب وابن زيد, والمغيرة بن شعبة ذكر أن هرون الصالح تبع جنازته أربعون ألفاً كلهم يسمون هرون تبركاً به وباسمه.
الثاني: أنه أخو موسى عليه السلام وعن النبي صلى الله عليه وسلم إنما عنوا هرون النبي وكانت من أعقابه وإنما قيل أخت هرون كما يقال يا أخا همدان أي يا واحداً منهم.
والثالث: كان رجلاً معلناً بالفسق فنسبت إليه بمعنى التشبيه لا بمعنى النسبة. الرابع: كان لها أخ يسمى هرون من صلحاء بني إسرائيل فعيرت به، وهذا هو الأقرب لوجهين: الأول: أن الأصل في الكلام الحقيقة وإنما يكون ظاهر الآية محمولاً على حقيقتها لو كان لها أخ مسمى بهرون.الثاني: أنها أضيفت إليه ووصف أبواها بالصلاح وحينئذ يصير التوبيخ أشد لأن من كان حال أبويه وأخيه هذه الحالة يكون صدور الذنب عنه أفحش .” اهـ

وكما رأينا فلقد ذكروا الأقوال الأربعة المحتملة في المسألة, فهو إما رجل صالح ينسب إليه, أو فاسق وعيرت به! وهذان القولان مستبعدان لأنهما لا يشيران إلى شخص معين, ولا دليل على وجود هذا الشخص الصالح جدا المسمى هارون, أو على افتراض طالح بنفس الاسم
ويبقى الاحتمالان الآخران, وهما أنها كانت من نسل هارون, أو أنه كان لها أخ (من الأب) وكان صالحا فعيرت به, وهذا القول هو ما رجحه الإمام الفخر الرازي, لأنه هو الظاهر في رأيه ويكون الكلام محمولا على حقيقته!

ولقد بينا -في كتابنا: لماذا فسروا القرآن- بطلان تقسيمهم الكلام إلى حقيقة ومجاز, وطريقة التقسيم العجيبة التي اعتمدوها.
ونحن نخالف الإمام الفخر في ترجيحه ونرى أن المراد من هارون, هو سيدنا هارون عليه السلام, لأنه لو كان المراد من هارون هذا أخا مشتهرا معروفا بالصلاح, لما ناسب أي ذكر لأحد بعد ذلك, وتصور أني شيخ معروف مشهور بالصلاح وأنجبت أختي ولدا, فهل سيكون من المناسب أن يقال لها:
يا أخت عمرو, أبوك رجل صالح!
إن هذا القول يلغي دور عمرو في المعايرة تماما على الرغم من أنه هو المحور, فإذا كنت مشتهرا معروفا فمن الأولى أن يقال: يا أخت عمرو كيف تفعلين هذا وأخوك كذا وكذا؟! ولو ذُكر أحد بعد الأخ لذكر منفصلا معطوفا عليه, فيقال مثلا:
يا أخت عمرو لقد جئت شيئا فريا إن أخاك كذا وكذا و-ثم إن- أبواك كذا وكذا! أما أن أذكر المشتهر ثم انتقل مباشرة إلى ما لا معرفة له, فهذا بعيد!
كما نلاحظ أنهم فصلوا فقالوا: أبوك كذا وأمك كذا! فلم لم يتحدثوا عن الأخ المشتهر المعروف, وهو الأولى بالذكر؟!

كما أن الكتاب المقدس لم يذكر أن لمريم أخا يسمى هارون, وهذا وإن لم يكن دليلا قاطعا ولكنه مرجح من المرجحات, ولقد انتبه السابقون من المتدبرين في القرآن إلى قوله تعالى:
إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران : 35]
فجعلوا هارون أخا لها من أبيها! ولكن لا دليل على وجود هذا الهارون!

ونحن نقول أنها كانت من نسل سيدنا هارون عليه السلام, وهذا ما يقول به علماء مقارنة الأديان, فلقد أثبتوا وبينوا أن مريم كانت من نسل هارون عليه السلام –وراجع عزيزي القارئ ما كتبه الشيخ المرحوم أحمد حجازي السقا وغيره في هذا الصدد- ومعلومٌ الدور الذي أنيط بنسل هارون عليه السلام في بني إسرائيل, وهو القيام على الشعائر الدينية للقوم.
ولذلك عيّرها قومها بهذا القول, فهم يلمحون ويشيرون إلى أنها من (المشائخ) الذين يفترض بهم القيام على أمور الدين, فكيف يصدر هذا الفعل من هذه الطبقة وتلك الفئة؟!
وربطهم إياها بهارون وهو ربط “نسب” وليس تشبيها بالصلاح وإنما لكونه منحدرة من نسب هارون, فسيدنا هارون لم يكن مشتهرا أو معروفا بالصلاح عند بني إسرائيل إلى تلك الدرجة!!! التي يُجعل بها مثلا للصالحين! فبغض النظر عن جعلهم إياه من صنع العجل لبني إسرائيل!!!, فهناك من اشتهر من أنبياء بني إسرائيل بالصلاح والتقوى أكثر من هارون عليه السلام, مثل إيليا (إلياس) وغيره, فيكون المراد هو رابطة النسب والدور (القيام بالشعائر)!

وهذا القول ليس بغريب أو مجازي, فمن المشتهر قولهم: يا أخا العرب! يا أخا عبس! ولقد استعمل القرآن اللفظة بهذا المعنى –مما يجزم بصحة استعمال العرب لها على هذا الشكل!-, فقال:
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ ……. [الأحقاف : 21]
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ ….. [الأعراف : 73]
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ ….. [الأعراف : 85]
فبمثل هذا الاستعمال استعمل قومها اللفظة!

قد يقول قائل: ولكن الأمر يبقى عرضة للالتباس, فلماذا لم يقل الله تعالى:
“يا ابنت هارون ما كان أبوك امرأ سوء …”
وبهذا يُزال اللبس الوارد في الآية!

فنقول: أولا: هم قالوها هكذا, والله تعالى يحكي قولهم, فهل يحكي قولهم بغير ما قالوا؟ فهل سيُعد هذا صدقا؟!!!
ثانيا: الله تعالى قال في غير هذه الآية: ومريم ابنت عمران, ولو قال هنا: ابنت هارون, لخرج المشككون وقالوا: هناك تناقض, فمرة يجعلها ابنت عمران ومرة ابنت هارون! ومريض القلب يتفنن في اختلاق التعارضات!
ثالثا: لو قال الله: ” يا ابنت هارون ما كان أبوك امرأ سوء”, لظهر لبس جديد في الآية, ولاختلفنا في المراد من “أبوك” هل هو عمران أم هارون, ولكان السياق مرجحا لكونه هارون.
ولكن مع هذا القول: يا أخت هارون ما كان أبوك …. لا خلاف على أن المراد من “أبوك” هو عمران عليه السلام!

وبهذا نكون قد أزلنا الشبهة المثارة حول الآية, والله أعلى وأعلم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

حول إنكار العقل الغربي ل “النظام الكبير”!!!

في إحدى اللقاءات المطولة على اليوتيوب عن اللغة وفلسفتها، ذكر المتحدث رأي دو سوسير، القائل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.