تطور استعمال المواد الخام , وما هي السرابيل ؟

مما يسلم به كل مسلم أن كتاب الله العزيز , كتاب صالح لكل زمان ومكان إلى أن تقوم الساعة , فلم ينزل الكتاب ليخاطب العرب أو البدو فقط وإنما نزل ليخاطب العالم كله بمختلف ثقافاته وحضاراته , وعلى الرغم من إيماننا بأن القرآن الكريم كله قائم على التجريد ورد الأمور إلى أصولها , إلا أنه استوقفتني آية في كتاب الله العزيز , تساؤلت معها :
ما هو وجه المن في هذه الآية ؟ فهذه الآية لا تخاطب إلا مجموعة من البدو بسيطة حياتهم , فيذكرهم الله عزوجل بهذه النعم , فيقول لهم : “وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) 
ثم لما أعملت فيها التأويل التجريدي ونظرت في الآية وما يليها وهو قوله تعالى ” وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) ”
أدركت أن الآيتين من تمام نعمة الله على البشر , ولولا هذه النعم ما استقامت حياة على وجه الأرض , وليتدبر مع القارئ في هاتين الآيتين لير معي مقدار فضل الله تعالى ونعمته على كل الجنس البشري من مبدأه إلى منتهاه :
يبدأ الله تعالى بقوله ” والله جعل لكم من بيوتكم سكنا “
فهذا الجزء من الآية خطاب لكل الناس , وهذا الخطاب متوافق مع كل منتوجات الإنسان في مجال السكن الثابت إلى قيام الساعة , فهو يوضح لنا أنه جعل لنا من بيوتنا سكنا ! والسكن أصل يدل على عدم الاضطراب والحركة وعلى السكون والهدوء , وهذا الوصف ينطبق على كل المباني الثابتة سواءا كانت من طين أو من خشب أو من أي مادة كانت , فهذه المباني ثابتة يتحقق فيها معنى السكون ويرتبط بها الإنسان , ولا يتنقل بها وإنما ينتقل إليها كما أن الله تعالى جعل السكن أيضا مع الزوج , إذن فأول نعمة في الآية أن الله جعل لنا من المواد ما نستطيع أن نجعل نحن به بيوتا يتحقق فيها معنى السكن . ثم تنتقل الآية فتتحدث عن فضل الله علينا وعن عظيم نعمة من نعمه علينا وهي الأنعام , ( وقد نفرد موضوعا مخصوصا للحديث عن نعمة الأنعام العظيمة التي لا تضاهى ) , والأنعام هي الحيوانات بمصطلحنا المعاصر وليس فقط الحيوانات التي نأكلها ! فالله يقول لنا أنه أمدنا بالأنعام التي نجعل جلودها بيوتا يستخفها الإنسان في حال ترحاله , فالظعن كما جاء في المقاييس : الظاء والعين والنون أصلٌ واحدٌ صحيحٌ يدلُّ على الشُّخوص من مكانٍ إلى مكان , وكذلك في حال إقامته فلا تسبب له مشاكل فإذا أراد أن يقوم برحلة خلوية أو استكشافية فهو يستخدم هذه الجلود ! ثم إن فائدة الأنعام لا تقتصر في هذه المسألة على الجلود فقط وإنما نستعمل أيضا أصوافها وأوبارها وأشعارها , ولقد قسم اللغويون فقالوا : الأصواف للضأن والأوبار للإبل والأشعار للمعز, ونحن نقول : ونحن نلحق باقي الحيوانات بهذه الثلاثة , فما شابه الأول فهو من أصحاب الصوف وما شابه الثاني فهو من أصحاب الأوبار وهكذا !

إذا فالإنسان يتخذ من الأصواف والأوبار والأشعار أثاثا والأثاث متاع البيت من الفرش والأكسية . قال الفراء : ولا واحد له ، كما أن المتاع لا واحد له , والأثاث معروف , فنحن نصنع منها أثاثا ومتاعا , والمتاع هو كل ما ينتفع به الإنسان , فأصل المتعة هو المنفعة وليس التلذذ كما يظن بعض الأخوة , فهي كما جاءت في المقاييس : الميم والتاء والعين أصلٌ صحيح يدلُّ على منفعة وامتدادِ مُدّةٍ في خيرٍٍ. فهي منفعة ممتدة وليست لحظية قاصرة , إذا فنحن ننتفع بهذه الجلود والأشعار في الأثاث والحاجيات .

قد يقول قائل : ولكن لقد كان هذا أخي فيما مضى من لازمان فنحن الآن لا نستعمل هذه الأشياء , لقد تطور المجتمع واستحدثنا من الأدوات والمواد الخام ما جعلنا نقلل من استعمال هذه المواد الخام .
فنقول : وهذا هو الدليل على أن هذا القرآن ليس من تأليف محمد , فالله تعالى ختم الآية بقوله ” إلى حين ” ,
فقال المفسرون : المراد حين بعد حين أي ممتدا إلى ما لانهاية أو إلى يوم القيامة , وهذا ما لم تقله الآية بأي حال , فهي تقول : إلى حين . وأي إنسان يرى أن ” حين ” نكرة 
فالآية تقول صراحة : أنكم ستستعملون هذه المواد إلى فترة من الزمان ثم تقلعون عن استعمالها وتستعملون غيرها من المواد وهذا ما حدث فعلا مع التطور العلمي والتكنولوجي .
وقول المفسرين هو أكبر دليل , فحتى زمانهم في القرن السابع الهجري أو حتى التاسع لم يكن أحد منهم يتصور أن تتراجع هذه المواد الخام عن الاستعمال فلقد كانت هي السائدة حتى زمانهم , فاضطروا للقول بأن المراد بالآية : حين بعد حين أو إلى يوم القيامة .
فما الذي أدرى محمدا أن هذه المواد ستهمل في يوم من الأيام ؟

ثم يواصل الله تذكيرنا بنعمه فيقول : أنه جعل لنا مما خلق ظلالا , فالظلال هي من أجل النعم على الإنسان , فمن يذوق حر الشمس يعرف مقدار نعمة الظل حتى أن أهل الجنة يمتعون في الظلال , فيقول تعالى ” هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ [يس : 56] ” ,
والظلال تنشأ من أي حاجز في الطبيعة لذلك قال الله تعالى ” والله جعل لكم مما خلق ظلالا “ فاستعمل ” ما ” , وجعل لكم من الجبال أكنانا ”

والأكنان جمع كن وهو أصل واحد يدل على الستر والأمن فالجبال منذ قديم الزمان تستر الإنسان سواءا عندما كان لا يزال في بداية الحضارة الإنسانية أوحتى الآن , فالجبال تعتبر حواجز وحدودا طبيعية تحمي الفرد والجماعة من غوالي الطبيعة ومن هجوم الأعادي فلا تزال الجبال تلعب ذلك الدور الحامي , هذا إذا غضضنا الطرف عن اتخاذ الجبال نفسها كمساكن أو اتخاذ الكهوف كملجأ , كما أنه جعل لنا سرابيل تقينا الحر
وقال العلماء أن المراد من السرابيل هو الدروع والقمصان , وهذا موجود في اللغة فعلا فهي أساسا بمعنى التغطية والستر والمنع وقال بعض المفسرين أنها استعملت في الجزء الثاني في الآية بهذا المعنى فقال ” وسرابيل تقيكم بأسكم” أي تقيكم بأسكم والمراد من البأس هو الحرب ولكن ليس المراد من البأس الحرب فقط وإنما كل بأس فهو بأس ! , وكذلك قالوا إن المراد من السرابيل التي تقينا الحر أي تقينا الحر والبرد ! ولكن هل قالت الآية هذا فعلا ؟

لا , الآية قالت تقينا الحر فقط , و الملاحظ أن الآية الثانية التي نتحدث عنها تذكر أشياءا مما خلقها الله في الطبيعة فهي تذكر كل ما خلق الله منشأ للظلال وتذكر الجبال وكذلك تذكر نوعين من السرابيل واحد لوقاية الحر وواحد لوقاية البأس ويفترض أنهما أيضا من خلق الله تعالى , فما هما هذان النوعان من السرابيل ؟ الله أعلم
ونلاحظ أن الله شاكل بين هذه السرابيل التي تقينا الحر فأشار إليها بقوله تعالى ” سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ [إبراهيم : 50] “ فبدلا من أن تقيهم الحر أصبحت هي نفسها من قطران , وهذه الآية ترجح فعلا أن السربال شيء متعلق بجسد الإنسان , وليس الدروع أو الملابس , فلا أعتقد أنه من الضروري أن يكون أهل النار متدرعين بالدروع وهذا من المفهوم بداهة ! حتى أن الله يصفهم أن الدروع التي يتدرعون بها بداهة ! هي من القطران وليس من الحديد أو من أي شيء آخر .

وأنا واقع في نفسي أن المراد من السرابيل هي المواد التي يفرزها الجسم من أجل حمايته فتنزل فتغطيه فتكون سربالا له , فهناك سرابيل تحميه من الحر وهي العرق,وهي تزداد كلما زاد الحر حتى تحميه منه  
أما في النار فهو متسربل بالقطران وليس بالعرق فلا يوجد عرق يرطب وإنما قطران يسود ويسخن !
وهناك سرابيل تقيه من البأس والبأس كما قلنا أي بأس ينتج عن الإنسان وليس المراد به الحرب فقط وهي أي أغطية تقي الإنسان من البأس والملاحظ أن الثياب أو الدروع تحصن الإنسان من البأس ” َعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ [الأنبياء : 80] ” ,
والذي تميل إليه النفس أن المراد من السرابيل الأخرى هي الجهاز المناعي عند الإنسان , فالله العلي العظيم جعل له خطوطا دفاعية تقيه من الأضرار والمخاطر التي يتعرض لها فإذا نزلت به , تحملها الجسم ولم يصبه شيئا , والله أعلم بمراده فهذه مجرد نظرات إرتأيتها في معنى السرابيل ولا أجزم بشيء منها ولكن ربما يجعل الله فيها فاتحة خير لغيري فيهديه إلى معنى جازم فيها متطابق مع الآية .
وكذلك يتم الله نعمته علينا لعلنا نسلم , فهو بذلك يذكرنا في هاتين الآيتين بوسائل حماية الإنسان فهناك بيوت ثابتة ساكنة وهناك بيوت متحركة وهناك مواد خام تستعمل وسيأتي غيرها وهناك ظلال يتمتع بها الإنسان وهناك جبال حمت الإنسان الأول ولا تزال تحميه وهناك دروعا خارجية ( العرق أو ما شابه ) ودروعا داخلية ( الجهاز المناعي ) تقي الإنسان من الأضرار التي يلحقها بنفسه أو بأخيه الإنسان وبهذا كله يتم الله نعمته علينا لعلنا نسلم , فهل أسلمنا لله حقا ؟ هدانا الله وإياكم إلى سواء الصراط .

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

الشك

بعض “القارئين” -تقليدا لبعض الفلاسفة- يمدحون ويزينون لك:“الشك”وأنه ضروري لتحقيق المعرفة .. وبناء الذات والحضارة!!!!!!! …

19 تعليق

  1. If some one wants to be updated with hottest technologies therefore he must be go to see this site and be up
    to date every day.

  2. There is definately a lot to learn about this issue.
    I like all of the points you made.

  3. Hi my family member! I want to say that this article is amazing,
    nice written and include almost all vital infos. I would like to
    see extra posts like this .

  4. Heya i am for the first time here. I found this board and I find It really useful & it helped me out a lot.

    I hope to give something back and aid others like you helped me.

  5. Excellent web site. Lots of helpful info here. I am sending it to some pals ans also
    sharing in delicious. And obviously, thanks in your effort!

  6. I love what you guys are usually up too. Such clever work and exposure!
    Keep up the very good works guys I’ve included you guys to my personal blogroll.

  7. Thank you for the auspicious writeup. It in fact was a amusement account it.

    Look advanced to far added agreeable from you!
    By the way, how can we communicate?

  8. I got this web page from my pal who told me concerning this web page and now this time I am visiting this website and reading very informative content at this
    place.

  9. Thanks for every other fantastic article. The place else could anybody get that kind of info in such
    a perfect manner of writing? I’ve a presentation subsequent week, and I am
    on the search for such info.

  10. Have you ever considered writing an e-book or guest authoring
    on other blogs? I have a blog based on the same ideas
    you discuss and would love to have you share some stories/information. I know
    my readers would enjoy your work. If you’re even remotely interested, feel free to shoot me an e mail.

  11. It’s actually a great and helpful piece of information. I am happy that you simply shared this useful information with us.

    Please stay us informed like this. Thank you for sharing.

  12. I feel that is one of the most vital information for me.
    And i’m satisfied reading your article. But want to statement on few common issues, The site taste is perfect, the articles is really excellent :
    D. Excellent activity, cheers

  13. You actually make it seem really easy along with your presentation but I find
    this matter to be actually something which I believe I’d by no means understand.
    It sort of feels too complex and extremely huge for
    me. I am looking ahead on your next put up, I’ll try to get the grasp of it!

  14. great submit, very informative. I wonder why the opposite specialists of this sector do not notice
    this. You should continue your writing. I am confident, you’ve a huge readers’
    base already!

  15. Heya i am for the first time here. I found this board and
    I find It really useful & it helped me out much. I hope to give something back
    and aid others like you helped me.

  16. Thanks a bunch for sharing this with all people you actually know what you are talking
    about! Bookmarked. Kindly additionally discuss with my
    web site =). We may have a hyperlink change contract among us

  17. Thanks for one’s marvelous posting! I genuinely enjoyed reading it, you are a great author.

    I will always bookmark your blog and will eventually come back sometime soon.
    I want to encourage one to continue your great work, have a nice day!

  18. Hey there! I just wanted to ask if you ever have any trouble with
    hackers? My last blog (wordpress) was hacked and I ended up losing
    a few months of hard work due to no data backup. Do you have
    any methods to protect against hackers?

  19. What’s up, after reading this awesome piece
    of writing i am also happy to share my experience here with colleagues.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.