حول “تغول” علم النفس

حول “تغول” علم النفسمن المشاكل التي يقع فيها -القائمون على- علم ما، هي تمدد هذا العلم وتشعبه ليشمل -تقريبا- كل حياة الإنسان، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع، فيقدم “تفسيرا” أو “توجيها” أو “حكما”، لكل كبيرة أو صغيرة في حياة الإنسان!
وهو ما رأيناه مسبقا في منظومة “الفقه” الإسلامي، حيث تمدد ليشمل كل الأفعال الإنسانية، حتى الأولوية في وطريقة تقديم الطعام للضيوف!!
بل ووصل الحال إلى “الافتراض”، فقدم أحكاما لوقائع لم تحدث بعد، بحيث لو وقعت فإن حكمها يكون كذا!

وما يعاب على علم الفقه، والذي احتاج إلى قرون حتى يصل إلى هذا الدرجة من التشعب والتمدد، يعاب كذلك على “علم النفس” الحديث، والذي وصل إلى درجة مقاربة في قرن واحد أو أقل!!!!!
وبعد أن كانت عدد التصنيفات لل”أمراض” و”الاضطرابات” النفسية محدودا، فإن هذا العدد تضاعف أضعافا مضاعفة في العقود القليلة الماضية!
فأصبحت هناك تشخيصات وتوصيفات تقريبا لكل الأفعال الإنسانية، فمن يفعل كذا فهو “مصاب” بكذا، أو لديه متلازمة كذا!
أو فعله هذا نابع لأن “طفله الداخلي” كذا، أو لأنه تعرض إلى كذا في طفولته!
ومن يتصرف بالشكل الفلاني فهو شخصية نرجسية!!
ومن يتصرف بالشكل العلاني فهو شخصية سامة!!

وهذا يضعنا أماما تساؤل كبيرة: هل أصيب البشر بالخبال مع “الحداثة” والتكنولوجيا، فتضاعفت أمراضهم واضطراباتهم أضعافا مضاعفة؟ ومن ثم فإن هذا يحتم علينا أن نكتب على الحداثة ومنتجاتها تحذيريا:
الحداثة سم قاتل .. ويؤدي إلى الخبال!
(ممنوع الاقتراب أو المعايشة!!)
أو أن كثيرا من الأفعال والسلوكيات تم تصنيفها ك “اضطرابات” نفسية، وهي ليست كذلك؟!
(وأنا أرى أنها الأخيرة!)

وهكذا ذاعت وانتشرت هذه التوصيفات -بشكل غير دقيق- بين عامة الناس، وأصبحنا نجدهم يتراشقون بها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، بدون تمحيص!
وأصبح هناك حالة من “التواصي” بالذهاب إلى “الإِخْصائي” أو الطبيب النفسي ليعرض الإنسان نفسه عليه، ليشخص حالته وليقدم له “علاجا” لهذه الحالة!!

وهكذا وصلنا إلى حالة من شيوع التوصيفات النفسية، حتى أنه أصبح من الممكن “الظن” بأن هناك 8 مليار مريض نفسي على سطح الكرة الأرضية!
وهكذا
فلم يختلف الحال كثيرا، فبعدما كانت الثقافة السائدة عند المسلمين سابقا، الحديث عن “الحكم الفقهي” لكل كبيرة وصغيرة!
أصبحت الثقافة السائدة حاليا -مع ظهور النموذج الغربي- هي الحديث عن “التوصيف/ التشخيص” النفسي للأفراد وأفعالهم .. ودوافعهم!

إن الإنسان الحديث أصبح بحاجة إلى من يقول له بصدق:
أنت صحيح نفسيا .. ولا تسمع لأصحاب دورات “التنمية البشرية”
وكذلك:
لا تذهب لإخْصائي أو طبيب نفسي إلا إذا كنت قد وصلت لحالة صعبة، تجد نفسك فيها تحكم على نفسك بأنك “لم تعد طبيعيا”، وأن معدل قيامك بفعل ما -أو التفكر في مسألة ما- قد وصل لحد الإيذاء لك أو لغيرك … ومن ثم فعليك إيجاد علاج يرفع عنك -وعن الآخرين- هذا الأذى!
ما عدا ذلك، فإن استشارة الأصدقاء والأقارب والأكبر سنا من أصحاب الحكمة والتجارب الحياتية غالباً ما ستكون أكثر جدوى ونفع لك، وهي فعلا ما تحتاجه .. وليس:
دواء .. ومزيد من الدواء

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

هل يحق للطبيب او المهندس الإعتراض على تعريب العلوم؟

اترك رداً على Archie3990 إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.