تحريم المعازف

حول حديث المعازف
(الذي هو ليس حديث المعازف)

الحمد لله رب العالمين وسلام على عباده الذين اصطفى ثم أما بعد:
فسٌألت حول حديث البخاري المشهور ب: حديث المعازف، وحول صحته، وكيف أنه وإن كان البخاري قد رواه معلقا فإن هناك من وصله من علماء الحديث مثل ابن حجر وغيره، فقلت:

هذا الحديث –وكثير غيره- مثال طيب على الفارق بين منهجي التسييقي في إصدار الأحكام، والتي من بينها الحكم على صحة الحديث، وبين منهج غيري، وأوضح فأقول:
المسألة ليست في وصل الحديث أو تعليقه وإنما في رواياته المختلفة، وتحديداً في رواية البخاري المخالفة! وأبدأ فأقول:

من يتناول هذا الحديث يركز –في الغالب- على نص البخاري فقط، ويتجاهل باقي روايات الحديث، بل إنه غالبا ما يتم تجاهل باقي نص الرواية عند البخاري نفسه، فالرواية عند البخاري تقول:
” حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِي سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ”
حيث غالبا ما يُكتفى بهذا الجزء ويُترك الجزء الباقي والذي يقول:
وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ يَأْتِيهِمْ يَعْنِي الْفَقِيرَ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا فَيُبَيِّتُهُمْ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعَلَمَ وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ” اهـ
ووجود مثل هذا الجزء كافي عند كثيرين لرفض الحديث أو لوضعه موضعه الشك ومن ثم عدم الركون إليه بقوة، حيث نجد حديثا عن قوم يُمسخون إلى قردة وخنازير إلى يوم القيامة!! ومسألة “المسخ” هذه من الأساطير أو إلى جوها أقرب!

ولن نتوقف طويلا مع الجزء الثاني من الرواية وسنركز حديثنا على النقطة الرئيس وهي الاستناد إلى هذه الرواية في تحريم المعازف!
ولن نتوقف طويلا مع نص الحديث نفسه وكيف أن الحديث بنصه ليس صريحا في تحريم أدوات الموسيقى وكيف أن المعازف تحتمل معان عديدة، وإنما سنعرض للحديث من حيث سياقه التاريخي فنقول:

الناظر في البخاري يجد أنه صنف الحديث في:
“باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه”،
فالبخاري يرى أن الحديث حول من يستحل الخمر، -ولم يورده في أي باب آخر ولم يقل إنه دليل في تحريم المعازف، وذلك لأن البخاري يعرف باقي روايات الحديث، إلا أن “الآخرين” الذين لا يعرفون باقي الروايات، أو لا يلقون لها بالاً يجعلون الحديث كذلك في تحريم المعازف!!

لذا دعني أصحبك عزيزي القارئ في جولة حول روايات هذا الحديث المختلفة، والتي توضح سياقه التاريخي، وكيف نمت الرواية! ونبدأ بما رواه الإمام أحمد في مسنده، حيث روى عن مالك بن أبي مريم قال:
“كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَبِيعَةَ الْجُرَشِيِّ فَتَذَاكَرْنَا الطِّلَاءَ فِي خِلَافَةِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ فَإِنَّا لَكَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ صَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا اذْكُرُوا الطِّلَاءَ فَتَذَاكَرْنَا الطِّلَاءَ كَذَا قَالَ زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ غَنْمٍ صَاحِبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ حَدَّثَنِي أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا
وَالَّذِي حَدَّثَنِي أَصْدَقُ مِنِّي وَمِنْكَ وَالَّذِي حَدَّثَنِي بِهِ أَصْدَقُ مِنْهُ وَمِنِّي فَقَالَ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّدَهُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَقَالَ الضَّحَّاكُ أُفٍّ لَهُ مِنْ شَرَابِ آخِرِ الدَّهْرِ” اهـ

فهذه الرواية توضح أنه كان هناك خلاف حول مشروب اسمه “الطلاء” والبعض يستحله والبعض يراه محرما، فلما دخل عليهم التابعي عبد الرحمن بن غنم ذكر لهم حديثا في المسألة!
ونلاحظ في نص هذا الحديث أنه يذكر فقط أن النبي قال:
ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها.
فالحديث فقط حول أن هناك من سيتلاعب بالتحريم المتعلق بالخمر ويسمي الخمر بأسماء أخرى!
والحديث بنفس هذا النص عند أبي داود في سننه:
قَالَ دَخَلَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ فَتَذَاكَرْنَا الطِّلَاءَ فَقَالَ حَدَّثَنِي أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا” اهـ

وعند أبي داود نجد زيادة في نص كلام رسول الله في رواية أخرى، فنجده يروي:
“سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيَّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ وَاللَّهِ يَمِينٌ أُخْرَى مَا كَذَّبَنِي أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ وَذَكَرَ كَلَامًا قَالَ يُمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرُونَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ” اهـ
فهنا الرواية ذكرت الخز والحرير فقط (وأسقط الباقي) ثم ظهر كلام عن المسخ!

فإذا نظرنا في رواية الحديث عند ابن ماجه فنجده يروي:
“عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا يُعْزَفُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَاتِ يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمْ الْأَرْضَ وَيَجْعَلُ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ” اهـ
فنجد أن الحديث كذلك عن استحلال الخمر .. الخمر فقط، بينما يضيف أنه يُعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات، ولم يقل إن هذا العزف في ذاته حرام، وإنما الكلام عن استحلال الخمر فقط!

وهو ما نجده كذلك في المعجم الكبير للطبراني
أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بن غَنْمٍ الأَشْعَرِيَّ قَدِمَ دِمَشْقَ ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنَّا ، فَذَكَرْنَا الطِّلاءَ ، فَمِنَّا الْمُرَخِّصُ فِيهِ وَمِنَّا الْكَارِهُ لَهُ ، فَأَتَيْتُهُ بَعْدَمَا خُضْنَا فِيهِ ، فَقَالَ : إِنِّي سَمِعْتُ أَبَا مَالِكٍ الأَشْعَرِيَّ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : ” لَيَشْرَبَنَّ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا ، وَيُضْرَبُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْقَيْنَاتِ ، يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ ، وَيَجْعَلُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ” اهـ
فكذلك الحديث عن استحلال الخمر وكيف أنهم من الأثرياء المترفين الذين يُعزف أمامهم وتغني لهم المغنيات، فأين النص على تحريم المعازف نفسها؟!
(وهنا نلاحظ فارقا في نص الحديث حيث الكلام عن خسف الأرض بهم مثلما حدث مع قارون، وأن الله يجعل منهم القردة والخنازير وليس يمسخهم، وهذا يفتح الباب للفهم المجازي للحديث)

وهو ما نجده كذلك في شعب الإيمان للبيهقي
عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ليشربن أناس من أمتي الخمر ، يسمونها بغير اسمها ، ويضرب على رءوسهم المعازف ، يخسف الله بهم الأرض ، ويجعل منهم قردة وخنازير” اهـ

فكما رأينا فإن مدار هذا الحديث على التابعي عبد الرحمن بن غنم الأشعري شيخ أهل فلسطين وتلميذ معاذ بن جبل، وكما رأينا فإن الحديث ورد بروايات عديدة، والبخاري هو الوحيد الذي روى الرواية بنص الاستحلال، وأدخل أمورا أخرى مع الخمر، بينما كان مدار الحديث في باقي الروايات -كما رأينا- حول الخمر (ولهذا أورده البخاري رحمه الله في باب من يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه)
والواضح أن الرواة قد خلطوا ما رواه عبد الرحمن بن غنم وزادوا عليه، وخاصة ما جاء في رواية البخاري، وجاء من جاء من بعده فجعل الرواية فيما لم ترد فيه والله أعلى وأعلم.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نقد رفض التعقل

من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.