سورة المزمل … منظور جديد!

حديثنا اليوم بإذن الله وعونه عن سورة المزمل, لنبين الوحدة الموضوعية لهذه السورة, مظهرين الموضوع الرئيس الذي تتناوله هذه السورة! كما نعرض لها لنبطل الإشكال القائل بوجود تعارض بين أول السورة وآخرها,

ونرد على المعترض على قولنا بنزول سور القرآن على هيئة سورة كاملة, استناداً لهذه السورة, فنبين أن السورة نزلت مرة واحدة وليست مقسومة!!

وقبل أن نبدأ في إظهار الوحدة الموضوعية نمهد بأن ننقد التصور التقليدي المقدم للسورة, فنبين أنه لا يتفق معها بحال, ثم بعد ذلك نقدم تصورنا نحن حولها!

القارئ في كتب التفاسير وأسباب النزول نجد أن هناك من قال أن هذه السورة هي ثالث ما نزل من القرآن!! فيقولون أنها نزلت بعد العلق والمدثر!!

ويستندون في ذلك إلى روايات عديدة من أشهرها ما رواه البخاري:
“عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح, ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد الليالي ذوات العدد- قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء, فجاءه الملك فقال: اقرأ قال ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم فرجع بها رسول الله [ ص: 4 ] صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع (……….) قال ابن شهاب وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض [ ص: 6 ] فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني زملوني فأنزل الله تعالى: يا أيها المدثر قم فأنذر إلى قوله والرجز فاهجر فحمي الوحي وتتابع” ا.هـ
وبغض النظر عن ضعف الحديث –لتفرد رواته في ثلاث طبقات: عائشة /عروة/ ابن شهاب الزهري- فلا يعني أن الرسول قال في موقف ما: زملوني زملوني, أن يكون هذا الموقف هو تأويل ما جاء في السورة!
ثم إن الرواية نفسها تقول في نهايتها أن بعد هذا الموقف نزلت سورة المدثر وليس المزمل!

والسورة كلها تصرح بأنها ليست الثالثة ولا الرابعة ولا من أوائل ما نزل من القرآن! فالسورة تأمر الرسول بقراءة القرآن وترتيله بالليل, وقيام جزء كبير من الليل, فهل كان الرسول قد عرف كيف يصلي حتى يؤمر بالقيام؟!
وحتى لو عرَف فبماذا كان سيقوم نصف الليل؟! هل كان سيقوم من 4-6 ساعات ببعض آيات من العلق والمدثر –على قولهم-؟!!

ثم أن السورة تأمر الرسول بأن يصبر على ما يقولون وأن يهجرهم هجرا جميلا وأن يمهلهم! وهذا يعني أن الرسول قد خاطب المشركين ودعاهم إلى الله فردوا عليه ردودا سيئة حتى وصل الرسول إلى حالة من الضيق, فأمره الله بالصبر وبالهجر الجميل والإمهال!!

فكيف يكون هذا كله والسورة –على قولهم- قد نزلت على الرسول قبل أن يبدأ في دعوة أي إنسان؟!!
ولقد ذكر المفسرون وجوها أخرى في سبب نزول هذه الآية, حتى تتفق مع ما جاء في السورة

, فمما ذكره الإمام الرازي في تفسيره:
“واختلفوا لم تزمل بثوبه؟ على وجوه أحدها : قال ابن عباس : أول ما جاءه جبريل عليه السلام خافه وظن أن به مساً من الجن، فرجع من الجبل مرتعداً وقال: زملوني ، فبينا هو كذلك إذ جاء جبريل وناداه وقال : يا أيها المزمل.
وثانيها : قال الكلبي : إنما تزمل النبي عليه السلام بثيابه للتهيئ للصلاة وهو اختيار الفراء.
وثالثها : أنه عليه السلام كان نائماً بالليل متزملاً في قطيفة فنودي بما يهجن تلك الحالة ، وقيل : يا أيها النائم المتزمل بثوبه قم واشتغل بالعبودية.
ورابعها : أنه كان متزملاً في مرط لخديجة مستأنساً بها فقيل له: { يأَيُّهَا المزمل * قُمِ اليل } كأنه قيل : اترك نصيب النفس واشتغل بالعبودية وخامسها : قال عكرمة : يا أيها الذي زمل أمراً عظيماً أي حمله والزمل الحمل ، وازدمله احتمله” ا.هـ

وكما رأينا فهذه الروايات غير الرواية المشهورة, ولقد عرض الإمام ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير للأقوال الواردة بشأنها, وحاول أن يبطل بعضها بقوله أنه لا دليل عليها, فمما قال:
“واختلف السلف في وقت نزولها ومكانه وفي نسبة مقتضاها من مقتضى الآية التي قبلها . والمشهور الموثوق به أن صدر السورة نزل بمكة .

ولا يغتر بما رواه الطبري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة مما يوهم أن صدر السورة نزل بالمدينة . ومثله ما روي عن النخعي في التزمل بمرط لعائشة .

ولا ينبغي أن يطال القول في أن القيام الذي شرع في صدر السورة كان قياما واجبا على النبيء – صلى الله عليه وسلم – خاصة ، وأن قيام من قام من المسلمين معه بمكة إنما كان تأسيا به وأقرهم النبيء – صلى الله عليه وسلم – عليه ولكن رأت عائشة أن فرض الصلوات الخمس نسخ وجوب قيام الليل ، وهي تريد أن قيام الليل كان فرضا على المسلمين ، وهو تأويل ،

كما لا ينبغي أن يختلف في أن أول ما أوجب الله على الأمة هو الصلوات الخمس التي فرضت ليلة المعراج وأنها لم يكن قبلها وجوب صلاة على الأمة ولو كان لجرى ذكر تعريضه بالصلوات الخمس في حديث المعراج ، وأن وجوب الخمس على النبيء – صلى الله عليه وسلم – مثل وجوبها على المسلمين . وهذا قول ابن عباس ؛ لأنه قال : إن قيام الليل لم ينسخه إلا آية إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل الآية ، ولا أن يختلف في أن فرض الصلوات الخمس لم ينسخ فرض القيام على النبيء – صلى الله عليه وسلم – سوى أنه نسخ استيعاب نصف الليل أو دونه بقليل فنسخه فاقرءوا ما تيسر من القرآن .” ا.هـ

وسنرى بعد قليل أن هذه الروايات لا علاقة لها بالسورة, وأنها لم تكن بحال سبب نزولها!
ونختم نقدنا لأقوالهم بعرض السورة تبعا لتصورهم:
تنادي النبي الذي تغطى بثيابه –لسبب من الأسباب- فتأمره بأن يقوم الليل … ويرتل القرآن, فسيلقى عليه قولا ثقيلا وتعلمه بأن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا وله في النهار سبحا طويلا وتأمره بأن يذكر ربه ويتبتل إليه تبتيلا وأن يصبر على ما يقولون ويهجرهم هجرا جميلا ….. الخ!


ونبدأ الآن في عرض تصورنا لهذه السورة!

ول ما نبدأ به هو إظهار الاتصال بين السورة السابقة والسورة اللاحقة, فإذا نظرنا في سورة المدثر وجدنا أنها –كما أصلّنا سابقا- تفصل بعض ما جاء في السورة السابقة لها, ولا يقتصر الأمر على تشابه المحتوى وإنما يتعداه إلى استعمال لمفردات مستعملة في سورة المزمل, وستظهر تلك المفردات في سورة المدثر مظللة

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (٥) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (٩) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (١١) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (١٢) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (١٥) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (١٧) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (١٨) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (١٩) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (١٢) وَبَنِينَ شُهُودًا (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (١٧) (……..) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ (٥٣) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦)

وكما رأينا فالسورتان تبدآن بمخاطبة الرسول ثم بالأمر بالقيام (ولم يأت فعل الأمر “قم” بهذه الصورة إلا في السورتين) ثم يأت عدد من الأوامر للرسول, ثم يؤمر بعد ذلك أن يذر الرب مع المكذبين –في المزمل- وفي المدثر مع واحد منهم, وفي المزمل كان الرسول شاهدا وهذا له بنين شهودا, وفي نهاية المزمل حديث عن التذكرة, وكذلك في المدثر حديث عن الإعراض عنها, ثم تُختم السورتان بأن الله غفور رحيم وأنه أهل المغفرة!!

هنا قد يقول القارئ: نعم ظهر الاتصال جليا بين المزمل والمدثر فأين الاتصال والتوافق بين الجن والمزمل؟!
نقول: الحق يقال أن مطلع سورة المزمل سبب لي مشكلة كبيرة, فلم أجد أي وجه للاتصال بين بداية سورة المزمل وبين نهاية سورة الجن, كما لم أجد اتصالا وترابطا بينه وبين آيات السورة, وأخذت أتساءل: ما الرابط الذي يربط آيات هذه السورة ببعضها؟!

ثم خطر ببالي أنه قد يكون المعنى الذي قدّمه المفسرون للمزمل معنى غير صحيح, وخاصة أن التصور المقدم كان يقتضي أن يكون الرسول مفعولا به وليس فاعلا, لأنه كان يقول: زملوني زملوني! ومن ثم فكان من المفترض أن يقال معه: يا أيها المُزَمَّل, وليس: يا أيها المُزّمِّل!

ومن ثم نظرت في “لسان العرب” لأنظر ما هو المعنى الأصلي لهذه الكلمة, فلربما أجد فيهما معنى يتوافق مع الآيات ومع صيغة اسم الفاعل التي جاءت الكلمة بها, وليس اسم المفعول الذي جعلها المفسرون عليها!

وسنطيل في النقل عن ابن منظور حتى يتأكد للقارئ أن المعنى الذي وصلنا إليه هو المعنى الأصلي للكلمة, وليس معنى فرعيا تابعا أو شاذا, فإذا نظرنا في معجم “لسان العرب” ألفينا ابن منظور يقول:
“زَمَلَ يَزْمِل ويَزْمُلُ زِمَالاً: عَدَا وأَسْرَعَ مُعْتَمِداً في أَحد شِقَّيْه رافعاً جنبه الآخر، وكأَنه يعتمد على رِجْل واحدة، وليس له بذلك تَمَكُّنُ المعتمِد على رجليه جميعاً. والزِّمَال: ظَلْع يصيب البعير.

والزَّامِل من الدواب: الذي كأَنه يَظْلَع في سَيْره من نشاطه، زَمَلَ يَزْمُل زَمْلاً وزَمَالاً وزَمَلاناً، وهو الأَزْمَل؛ قال ذو الرمة: راحَتْ يُقَحِّمُها ذو أَزْمَلٍ، وُسِقَتْ له الفَرائشُ والسُّلبُ القَيادِيدُ والدابة تَزْمُل في مشيها وعَدْوِها زَمالاً إِذا رأَيتها تتحامل على يديها بَغْياً ونَشاطاً؛ وأَنشد: تراه في إِحْدى اليَدَيْن زامِلا الأَصمعي: الأَزْمَل الصوت، وجمعه الأَزامِل؛ ؤَنشد الأَخفش: تَضِبُّ لِثاتُ الخَيْل في حَجَراتها، وتَسْمَع من تحت العَجاج لها آزْمَلا يريد أَزْمَل، فحذف الهمزة كما قالوا وَيْلُمِّه.

والأَزْمَل كل صوت مختلط.والأَزْمَلُ الصوت الذي يخرج من قُنْب الدابة، وهو وِعاء جُرْدانه، قال: ولا فعل له. وأَزْمَلةُ القِسِيِّ: رَنِينُها؛ ………… وقال أَبو الهيثم: الأُزْمُولة من الأَوعال الذي إِذا عَدا زَمَل في أَحد شِقَّيه، من زَمَلَتِ الدابةُ إذا فَعَلَتْ ذلك؛ قال لبيد: فَهْوَ سَحَّاجٌ مُدِلٌّ سَنِقٌ، لاحق البطن، إِذا يَعْدُو زَمَل الفراء: فَرَسٌ أُزْمُولة أَو قال إِزْمَولة إِذا انشمر في عَدْوِه وأَسْرَع.

ويقال للوَعِل أَيضاً أُزْمُولة في سرعته، ………… والزَّمِيل: الرَّدِيف على البعير الذي يُحْمَل عليه الطعام والمتاع، وقيل: الزَّمِيل الرَّدِيف على البعير، والرَّدِيف على الدابة يتكلم به العرب.
وزَمَله يَزْمُله زَمْلاً: أَردفه وعادَلَه؛ وقيل: إِذا عَمِل الرجلان على بعيريهما فهُما زَمِيلانِ، فإِذا كانا بلا عمل فهما رَفِيقان. ابن دريد: زَمَلْتُ الرَّجلَ على البعير فهو زَمِيلٌ ومَزْمول إِذا أَردفته. …….. الزَّامِل من حُمُر الوحش: الذي كأَنه يَظْلَع من نَشاطه، وقيل: هو الذي يَزْمُل غيرَه أَي يَتْبَعه. وزَمَّل الشيءَ: أَخفاه…….
وكل شيء لُفِّف فقد زُمِّل. قال أَبو منصور: ويقال للِفافة الراوية زِمالٌ، وجمعه زُمُلٌ، وثلاثة أَزْمِلةٍ.
ورجل زُمَّالٌ وزُمَّيْلة وزِمْيَلٌّ إِذا كان ضعيفاً فَسْلاً، وهو الزَّمِل أَيضاً.
وفي حديث قَتْلى أُحُد: زَمَّلوهم بثيابهم أَي لُفُّوهم فيها، وفي حديث السقيفة: فإِذا رجل مُزَمَّل بين ظَهْرانَيْهم أَي مُغَطًّى مُدَثَّر، يعني سعد بن عُبَادة ………………….
والزِّمْل الحِمْل. وفي حديث أَبي الدرداء: لَئِن فَقَدْتموني لتَفْقِدُنَّ زِمْلاً عظيماً؛ الزَّمْل: الحِمْل، يريد حِمْلاً عظيماً من العلم؛ قال الخطابي: ورواه بعضهم زُمَّل، بالضم والتشديد، وهو خطأٌ. ……………… والزَّمَل الرَّجَز؛ قال: لا يُغْلب النازعُ ما دام الزَّمَل، إِذا أَكَبَّ صامِتاً فقد حَمَل يقول: ما دام يَرْجُز فهو قَوِيٌّ على السعي، فإِذا سكت ذهبت قوّته؛ …. ” ا.هـ

فكما رأينا فالمعنى الأول الذي ذكره ابن منظور للكلمة هو العدو والإسراع ولكنه ليس عدوا مستقيما وإنما به خلل, وكذلك قال أنه الصوت المختلط, وقال أنه الحمل كذلك!

فإذا أسقطنا المعنى المستخرج من هذه المعاني على الرسول, وجدنا أن المعنى الذي يتناسب مع السورة السابقة والآيات اللاحقة هو أن الرسول الكريم كان يسرع في قراءة القرآن, حتى أنه ربما كان يؤدي ذلك إلى عدم وضوح كلماته.

لذلك قال له ربه أن هذا المسلك غير صحيح, فعليه أن يقوم الليل …. وأن يرتل القرآن (والرتل كما جاء في اللسان :وكلامٌ رَتَل ورَتِلٌ أَي مُرَتَّلٌ حسَنٌ على تؤدة.
ورَتَّلَ الكلامَ: أَحسن تأْليفه وأَبانَه وتمَهَّلَ فيه. والترتيلُ في القراءة: التَّرَسُّلُ فيها والتبيين من غير بَغْيٍ.) فيقرأ على تؤدة بدون عجلة, فالصلاة في ساعة الليل أشد وطئأ وأقوم قيلا, فيكون القيل مستقيما لا عوج فيه! بينما للرسول تقلبا طويلا قد يشغله عن القراءة أو التقرب إلى الله … ومن ثم فينبغي أن يكون هذا بالليل!
فكما رأينا فبهذا المعنى فهمنا لماذا أُمر الرسول بالقيام وبالتأني ولماذا قيل له أن ناشئة الليل أقوم قيلا, كما يظهر الاتصال بين السورة السابقة وهذه السورة, فإذا نظرنا في نهاية سورة الجن وجدنا الرب العليم يقول:
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (١٨)وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (١٩) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (٢٠) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (٢٢) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (٢٣) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (٢٤) (…….) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (٢٨)

فسورة الجن تعرض لمطالبة المشركين الرسول بإشراك آلهتهم مع الله في المساجد وكيف أن الطلب قد رفض, وكيف أن سبيل الرسول الوحيد للفلاح هو إبلاغ رسالات الله, وتختم السورة بالحديث عن الرسالات وإبلاغها, وتبدأ سورة المزمل بالحديث عن مسلك للرسول في التعامل مع الرسالة التي نزلت إليه وتوجيهه إلى التعامل السليم مع الرسالة!

ثم بعد ذلك تأمره السورة باتخاذ الله وكيلا والصبر على ما يقوله الكافرون, -من الحديث عن ضعف ناصر المؤمنين ومن المطالبة بإشراك آلهتهم مع الله في المساجد- وأن يهجرهم هجرا جميلا, وأن يذر الله وهؤلاء المكذبين وأن يمهلهم قليلا, فلهؤلاء في الآخرة أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما!

(ولقد كنت أتساءل: لماذا ذُكر الطعام هنا تحديدا كواحد من العقوبات التي سيلاقيها هؤلاء؟! ثم انتبهت إلى أن الرب العليم قد قال في سورة الجن:
“وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً [الجن : 16]”
فمن يستقيم يُسقى الماء الغدق, بينما لمن يُكذب الطعام ذو الغصة والعذاب الأليم!)
ثم يقول الله للمشركين أنه أرسل إليهم رسولاً شاهدا كما أرسل إلى فرعون رسولا شاهدا عليه, فلما عصى فرعون الرسول أُخذ, ومن ثم فسيكون نفس الحال معهم إن هم كفروا؟!!

وهذه السورة وما فيها من الآيات تذكرة, فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا!
وتبقى الآية الأخيرة والتي هي محل الإشكال, والتي يقول البعض فيها أن الرب قد نسخ أول السورة بآخرها وأنها نزلت بعد سنة أو أكثر من نزول السورة!, فهل يستقيم لهم هذا؟

إذا نظرنا في الآية وجدناها تقول:
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المزّمِّل : 20]
ونقول: ليس هذا هو الموطن الوحيد في القرآن الذي ذكر الحكم وأتبعه بحكم مخفف, فمن ذلك ما جاء في سورة الأنفال:
“يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)”
ومنه ما جاء في سورة المجادِلة:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٣)”

ففي هاتين السورتين ذكر الرب الحكمين, الأول الأفضل على سبيل الندب والاستحباب لمن شاء أن يفعل والثاني على سبيل الإيجاب!
فمن المفترض في النبي أن يحرض المؤمنين على القتال حتى ولو كان الواحد مقابل عشراً فعليه أن يصبر في لقائهم, ولكن لأن هذا الأمر ليس باليسير ولأن بالمؤمنين ضعف فالواجب فقط يجعل الواحد مقابل الاثنين!


وكذلك في المجادِلة, فالله تعالى يأمر المؤمنين أن يقدموا صدقة, فإذ لم يفعلوا وتاب الله عليهم –وهو نفس التعبير المذكور في المزمل “علم أن لن تحصوه فتاب عليكم- فعليهم أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة!
(ولقد تناولنا هاتين الآيتين بتفصيل كبير في حديثنا عن مبحث النسخ على صفحات موقعنا, فمن أراد الاستزادة فليرجع إليه!)

وكذلك الحال هنا في سورة المزمل, فلقد نزل الأمر للرسول –وحده- بقيام الليل إلا قليلا, نصفه أو ينقص منه قليلا أو يزد عليه!


وهذا التخيير بين قيام نصفه أو أقل أو أكثر يشير إلى أن الأمر لا يفيد الوجوب وإنما هو للندب!(ولسنا أول من قال أن الأمر للندب, فلقد ذكر الإمام الفخر الرازي كان هذا كان رأيا لبعض العلماء,

فقال في تفسيره:
استدل بعضهم على عدم الوجوب بأنه تعالى قال : { نّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } ففوض ذلك إلى رأي المكلف وما كان كذلك لا يكون واجباً وهذا ضعيف لأنه لا يبعد في العقل أن يقول : أوجبت عليك قيام الليل فأما تقديره بالقلة والكثرة فذاك مفوض إلى رأيك ، ثم إن القائلين بعدم الوجوب أجابوا عن التمسك بقوله : { قُمِ اليل } وقالوا ظاهر الأمر يفيد الندب ،
لأنا رأينا أوامر الله تعالى تارة تفيد الندب وتارة تفيد الإيجاب ، فلا بد من جعلها مفيدة للقدر المشترك بين الصورتين دفعاً للاشتراك والمجاز ، وما ذاك إلا ترجيح جانب الفعل على جانب الترك ، وأما جواز الترك فإنه ثابت بمقتضى الأصل ، فلما حصل الرجحان بمقتضى الأمر وحصل جواز الترك بمقتضى الأصل كان ذلك هو المندوب ، والله أعلم . ا.هـ)

والإشكال في هذه السورة راجع إلى أن المفسرين ظنوا أن أمر الله الرسول بقيام الليل هو الأمر الذي جعل الرسول يقوم الليل –وكما بيّنا سابقا فالسورة لا يمكن أن تكون من أوائل ما نزل من القرآن-, فهم جعلوا الأمر لإنشاء التكليف بينما نحن نراه تخفيفا!

فالرسول الكريم كان يقوم الليل فعلا –وكذلك كان يقرأ القرآن بالنهار ويتعجل في قراءته- فجاء الأمر للرسول بقيام الليل على سبيل التخيير بأن يقوم نصفه أو أقل أو أكثر وأن يجعل النهار للذكر, فبهذا يكون النهار للذكر والليل للقراءة والقيام.

ولذلك قال الله له في آخر السورة أنه يعلم أنه وطائفة من الذين معه يقومون أدنى من ثلثي الليل ويقوم نصفه وثلثه, والله علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فما يفعلونه ليس واجبا عليهم, وإنما الواجب عليهم أن يقرؤوا ما تيسر من القرآن, لأنه سيكون منهم المريض ومن يضرب في الأرض ومن يقاتل في سبيل الله, فعليهم أن يقرؤوا القرآن ويقيموا الصلاة ….
(وعطف قراءة القرآن على إقامة الصلاة دليل على أن المراد من قراءة القرآن هو القراءة العادية وليس إشارة إلى إقامة الصلاة)

وقد يستغرب القارئ أن يكون الرسول يقوم الليل فعلا ثم يأتيه الأمر بقيامه, فما الداعي إلى الأمر؟
فنقول: لا عجب في هذا فهو أسلوب مفهوم معروف مستخدم, ونحن نفهم النصوص المشابهة على هذا المنوال, ولكن الذهن المحمل بتصور معين يفهمه تبعاً له ويستبعد غيره, ونقدم للقارئ مثالا مشابها لما جاء في السورة ونسأله كيف سيفهمه:
إذا وجدنا من يقول لطالب مجتهد:
ذاكر اليوم كله أو جزء منه ولا تضيع الوقت ولكن نظم وقتك واعتمد علي فسأعينك ……. الخ!

ثم قال له القائل في نهاية الأمر:
أنا أعلم أنك تذاكر فعلا كثيرا, ولكن هذا المجهود كبير عليك فلا تقتل نفسك من الإرهاق وذاكر ما تستطيع!
هل سيفهم السامع أن الأمر بالمذاكرة الذي جاء في أول النصيحة كان لأن الطالب لا يذاكر وهو يريد منه أن يذاكر, أم أنه يذاكر فعلا وهو ينصحه بالمذاكرة وسط نصائح أخرى, تعطيه الطريقة المثلى للمذاكرة؟!

بالتأكيد سيفهم السامع أن الطالب يذاكر بالفعل والأمر بالمذاكرة هنا للنصح ولإعطاء الطريقة الجيدة للمذاكرة!
وكذلك الحال هنا فلقد أمر الله الرسول بالقيام ثم قال له في آخر السورة أنه يعلم فعلا أنه يقوم!

قد يقول القارئ: ولكن هذا فيمن يعطي نصيحة في جلسة واحدة, وهذه الآية قد نزلت بعد فترة؟!

نقول: لا دليل على أنها نزلت بعد فترة, فلقد اختلفت الروايات اختلافا شنيعا في زمان نزول السورة نفسها ومن ثم الآية بعدها, ونحن نرفض القول بنزول القرآن على هيئة آيات منفصلات, -وقدمنا على ذلك الأدلة الكثيرة- ولقد قدمنا هنا التصور الذي يجعل الآية تستقيم مع سابقيها في نزلة واحدة! ويبطل الحاجة للقول بنزولها لاحقا!!

وكما رأينا فلا نسخ وإنما هو أمر بالأعلى على سبيل الندب في أول السورة –وكان للنبي فقط- وهناك أمر بالوجوب على سبيل الإلزام للرسول وللصحابة ولكل المسلمين وهو قراءة ما تيسر منه, ولا يعني ورود الأمر الثاني أن الأول قد أُلغي, وإنما هو الأفضل للنبي فقط!

وكما رأينا, فمن خلال ربطنا السورة بالسورة السابقة فهمنا لماذا جاءت السورة على هذا المنوال, وظهرت لنا وحدتها الموضوعية! والتي تدور في فلك قراءة القرآن للتقرب إلى الله الحبيب والتعلق به, والتوكل عليه في مواجهة الأخرين, فهو ناصر عبده عليهم كما نصر السابقين على العاصين المكذبين!

والله أعلى وأعلم وأعظم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

حول إنكار العقل الغربي ل “النظام الكبير”!!!

في إحدى اللقاءات المطولة على اليوتيوب عن اللغة وفلسفتها، ذكر المتحدث رأي دو سوسير، القائل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.