فارٌّ!

الوسوم: 

Viewing 0 reply threads
  • الكاتب
    المشاركات
    • #2773

      بسم الله الرحمن الرحيم
      هذه الخواطر هي أول ما خط قلمي …. وكنت قد كتبتها وفقدتها ….. وفي أثناء بحثي عن بعض الكتب القديمة وجدتها ….. فسررت لذلك وها أنا أقدمها للقارئ الكريم بعد أن أدخلت عليها بعض التعديلات.

      وكنا قد كتبنا هذه الخواطر أثناء فترة تأثرنا الشديد بالوجد الصوفي وبأفكاره! ولله الحمد فلقد خف عندنا هذا الغلو كثيرا, وسيجد القارئ بالخواطر الكثير من التلميحات والإشارات, والتي نرجو أن يلحظها بنفسه .ولا نطيل على القارئ الكريم ونتركه مع الخواطر:

      ظلام …ظلام … ظلام ….
      أين أنا؟! …. من أنا؟
      وماذا أفعل ها هنا؟!!
      لست أدري!
      وفجأة … ينقشع الظلام ويظهر الضياء.
      ولأول مرة أرى مخلوقات مثلي, فتزداد حيرتي:
      من هؤلاء وما غايتهم؟! لا, لا, أولا: من وأين أنا؟!
      لست أدري!

      لم كنت في الظلام ثم انتقلت إلى الضياء؟
      لست أدري!

      وتمر أزمنة وأعرف من أنا, ومن هم وأين أنا!
      ولكن حتى لحظتي هذه لا أعرف: لم أنا أو هم هنا!
      وبعد أزمنة أخر حسبت أني لهم عبدا, ولهذا أتيت!
      افعل واترك, اذهب وأقبل, العب وأقلع!
      ألهذا أتيت؟ حتى أصير لهم عبدا؟
      ولكن حتى إذا كانت هذه هي العلة, فما فائدتهم هم ولم أتوا؟!
      عبيد من هم؟!
      لا أرى أحدا يأمرهم أو ينهاهم, هم في عيني أحرار!
      إني في واد ليس له قرار ……. أعيش فيه الضياع.
      ثم عرفوني أنهم كذلك … عبيد.

      قالوا لي:
      هناك إله خالق كل شيء. خلق الكون كله, خلقنا وخلقك وخلق كل شيء, لنعبده ونطيعه ونعمر دنيانا!
      إله! رب! ماذا يعني هذا؟!
      لماذا لا أراه؟!
      كيف هو؟ أهو مثلنا؟
      شخص أو شيء كبير؟!
      أم هو شيء إلى الأرواح أقرب؟ أم تراه وهم وخيال؟!
      لست أدري.

      قالوا لي: أرح نفسك, فليس له مثيل أو شبيه ولن يدركه عقلك.
      فسكت الصوت وخفت, ولكنه من جديد ظهر وعلا:
      أرى كل شيء يخلقه خالق, فمن خلق هذا الخالق؟!
      قالوا: لم يخلقه أحد, فهو الخالق العليم, واجب الوجود, ليس بوالد ولا مولود.
      ماذا يعنيه هذا الكلام؟

      لست أدري, حائر أنا ولسؤالي مُلام!
      تمزقت وتعذبت واحترت, شككت وترددت ثم أقلعت.
      ولأكن دقيقا “شُغلت”, وفي طريق الحياة سرت, متطلعا لمجهول جديد نظرت.
      ومن جديد قالوا لي: افعل واترك وهنا قف! لا تتجاوز الحدود.
      متعجبا قلت: لم مجددا الحدود؟
      قالوا: أوامر ربك واجبة الطاعة ولها الخضوع لا بد.
      نقبت عقلي باحثا عن هدف لهذه الإلزامات, وعن فائدة تُرجى من هذه النواهي, فوجدت لبعض ولم أجد لأُخر علة تُبغى.

      ولكني سمعت وأطعت, ووقفت وما تجاوزت الحد, ولسلطان الجماعة خضعت.
      ووجدت نفسي مرة أخرى في نهر طريق الحياة ككل البشر … أسير.
      لم يعجبني الطريق ولا المسير ولا كوني أسير.…..
      حاولت أن أخرج فجُذبت …. أن أهرب فحُبست …
      أن اعترض, فما انتبه أحد أو التفت …..
      ما استطعت الخروج, فتيممت جانب الطريق …..
      حاولت الاعتزال قليلا, إلا أني وجدت نفسي في نهر الطريق أسير وبالبشر أُدفع ….
      مقاوما عزمت أن لن أكون معهم أو مثلهم …

      رغم الأين سأفرُّ إلى جانب الطريق … هذه الكرّة لن أحاول الخروج, فسأظل فيه …. فأتيت الجانب وثبّت فيه قدماي, وكثيرا ما زلت قدماي, ولكني لا زلت في جانب الطريق راسخ, ثابت, ازداد قوة … ويقينا … وإيمانا … وعلما … ووعيا … وسكينة.

      ولما أيقنت أني اكتفيت قررت الخروج … قررت أن أعود مرة أخرى إلى نهر الطريق … فما عاد لي بهذه الخلوة حاجة ولا لهذا الاعتزال غاية.
      بعين جديدة نظرت الطريق, تعجبت من حاله وضحكت …
      انظر إلى الماشين, ماذا هم فاعلون ولم هم يفعلون؟ أكل هذا التطاحن والتنازع والاختلاف من أجل حوزة هذا الحطيم الفاني؟

      هب أن أحد المتطاحنين به ظفر, هل سأل ذاته: ماذا لذلك كسب وماذا فقد؟ وماذا في خلاله لغيره قدّم؟
      في منتصف الطريق وقفت أضحك بملء في! ضحكت حتى البُكى … وجال بخاطري ماضيّ القريب, حيث كنت أتساءل وأفكر في أشياء وفي جدواها وكيف إثباتها وما وراها!

      والآن بعد هذه العزلة عرفتها وخبرتها, فما عدت أفكر فيها ولا تخطر على بالي شاردة … فلقد آتاني اليقين … فلقد عرفت ربي الخالق وعرفت نفسي العبد.
      أيقنت أن الله حق, ومن يشكك فيه أحمق.

      على كل منحى؛ علماً وعقلا وفلسفة … أحمق … لا هو من ذلك أحمر!

       

      الآن أعرف طريقي وأين وإلى ما أسير, ولم أنا في هذا الطريق!
      ولكني الآن أتعجب من أفعال البشر وغاياتهم كلها …

      أخلف المال أو الجاه والسلطان أو حتى النساء بكل العزم يسعون؟!
      ولهذه التوافه بهذا العلو يعظمون؟! وحولها يتقاتلون؟ وعلى مذبحها دمائهم يريقون؟! فيا للحمقى المغفلون!
      أعجب وأسأل:
      لم لم يحاولوا أن يقفوا ويذهبوا ولو لبرهة إلى جانب الطريق, ليتفكروا ويتعلموا ويتدبروا …

      أقولها كناصح: لا تعجلوها طويلة, لا أريدها كعزلتي, ولكن لم لا تفرون إلى جانب الطريق؟! …. عجبا.
      أنا الآن أضحك منهم ومن نفسي…

      فبعد أن خبرت الكثير وصرت أكثر حكمة وسكينة, ها أناذا أتساءل مرة أخرى عن بسيطات, ما خطرت من قبل لي على بال.
      فالحيرة دوما ملازمة, والتساؤل دوما لي مصاحب …
      ولكني الآن أفضل حالا, فلا اختلاط ولا التباس …
      فحيرة اليوم أفضل من حيرة الأمس وأحلى …
      حيرة اليوم حيرة تعجب واستنكاه, وحيرة الأمس حيرة جهل وضلال, وشتان ما بين الاثنين.
      ببطء سرت في طريقي وخضته, حتى لا يجرفني نهره, فأعدوا فيه مثل من غروره غرّه!
      سائرا أتأمل ما حولي, فأرى الناس مجانين … من أجل سراب يسعون ووراء الوهم يجرون وأكثرهم للحق كارهون.

      رأيت الباطل منتشيا منتفشا … يبدو حقا … وهو باطل!
      البشر له متبعون .. مؤيدون .. مزينون .. عنه مدافعون, يؤيدونه حتى الجنون!
      تنصحهم فيعرضون .. تنذرهم فلا يسمعون ..
      فهم للآذان مغلقون .. وللعجب يبهتونك أنك مجذوب مجنون!
      سألت نفسي: أأنت لهم طبيب؟

      توقفت مرة أخرى سائلا نفسا: أأترك الطريق وأعود إلى عزلتي وخلوتي, فلقد صرخت وما من مجيب؟!
      تبسمت من حالي وأفقتها, أنت الآن في وسط الطريق, وفي وسطه أنت في عزلتك وخلوتك, ألم تلحظ؟!
      الطريق بأكمله يتحرك وأنت ثابت لا تتزحزح خطوة, فما حاجتك للعزلة؟!

      انتبهت …
      حقا, لقد هانت عندي متعة الدنيا وغاياتها, وتساوت عندي الأشياء, فصارت سواء!
      كلها سواء .. إلا حق وباطل.

      فهما أبدا ضدان لا يستويان … هما طريقان مختلفان لا يتقابلان ولا يتقاطعان.
      فالحق ظاهر والباطل بيّن, وبينهما شاسعة مسافات …
      أرى عند كثرة البشر الطريقين ملتبسين.
      بينهما لا يفرقون, وبذلك هم راضون مسرورون!
      سألت نفسي: أنت لا تزال إنسانا ذا بنيان وكيان … ستناديك الحاجات وسيناديك الطريق, فهل ستظل ثابتا أم شيئا فشيئا يجرفك نهره وتمسي “غريق”!

      أطرقت مفكرا: أكان ما فعلته زلة أم كان عين الصواب؟!
      تبسمت ثم قلت: سأمضي في طريقي أنا …
      فار من غالب الطريق … وإن ناداني الطريق أو نادتني الحاجات, فلن أجيب … سيكون شعاري: هيهات … فحتما الفرار.
      سألتني نفسي: ألن تُغيِّر؟!
      أجبتها: هم كالحمر المستنفرة, لا يسمعون ولا ينصتون, وإن سمعوا لا يفقهون.
      طمأنتها أن فراري الآن لن يكون مثل فرار من فروا …
      وإنما سيكون صرخة .. أتبعها بصرخات .. علّ بعضهم يفيق ويرى ويخبر هذا الطريق.

      فإن لم يسمعوا فما عليّ ملام, فأتركهم فيه يتنازعون المُدام … بنشوتها يسكرون, فيها يغرقون ولا يفيقون …
      فسأفر بنفسي وبمن معي وأنا معهم … نفر إلى النجاة .. حتى لا أعود مجددا إلى الظلام … فأبقى في الضياء.
      فأنا من دنيا البغضاء والشحناء فارّ … فارٌّ إلى عالم المودة والصفاء …

      إلى الوجود الحقيقي … إلى الفناء!
      أتركهم خلف ظهري وإلى الله أفرّ …
      وبذلك أكون من المفلحين الفائزين …
      أكون ممن عادوا إلى الضياء … إلى النور …
      إلى الله نور السماوات والأرض ….
      رب العالمين.

Viewing 0 reply threads
  • يجب تسجيل الدخول للرد على هذا الموضوع.