الحج ورمي الجمرات!

نتوقف اليوم بإذن الله وعونه لنعرض لفريضة الحج, تلك الفريضة التي غالباً ما يُرمى الإسلام بالوثنية بسببها, بحجة أنها عبادة لا تختلف عن العبادات الوثنية من حيث أنها طواف حول أحجار ورمي لحجر بأحجار!

لذا نعرض لآيات الحج في القرآن لنبصر كيف هو الحج القرآني, وهل هو أعمال وثنية؟! ولنبين أن المسلمين غفلوا عن التصور القرآني الذي قدمه للحج ومن ثم حاولوا أن يقدموا تبريرات عقلية له من عند أنفسهم ليعللوا الحكمة من هذه العبادات بهذا الشكل.

الناظر في تصور المسلمين للحج يجد أنه قصد بيت الله لأداء بعض الأعمال التعبدية من دوران حول الكعبة وسعي بين الصفا والمروة ووقوف بعرفة ورمي للجمار وذبح للأضاحي ومبيت بمنى, فإذا فعل الإنسان هذا بترتيب محدد فقد أدى الحج بشكل صحيح, ومن ثم أصبحنا نسمع عما يُسمى بالحج السريع, الذي لا يستغرق إلا أياماً معدودات, يحصل بعدها المسلم على لقب: حاج!

فهل هذا هو الحج القرآني؟
إذا نظرنا في سورة الحج وجدنا الرب العليم يقول:
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩)
فالناس تأتي الحج أولاً لتشهد منافع لها, وهي منافع دنيوية بالدرجة الأولى, ولقد قال المفسرون أنها منافع دنيوية ودينية!
إلا أنهم عند تفسيرهم لها جعلوها منافع لأهل مكة!!! فقيل:
“فمن المنافع الدنيوية التي يلمسها الناس البيع والشراء، ومكاسب أصحاب الحرف التي تتعلق بالحجاج والحركة المستمرة في وسائل النقل المختلفة، وفائدة الفقراء مما يدفع لهم من صدقات أو يقدم من ذبائح الهدي والضحايا والكفارات عن كل محظور يرتكبه المحرم، وتسويق البضائع والأنعام إلى غير ذلك
مما يلمسه كل مسلم يشارك في الحج” اهـ

ومعنى كلامهم أن الله أتى بالناس من كل فج عميق لينفعوا أهل مكة! ويشهدوا بأعينهم كيف ينفعوا أهل مكة!!! والله تعالى لم يقل هذا, وإنما قال: “ليشهدوا منافع لهم” أي أنها منافع للحاجين أنفسهم بالدرجة الأولى! وهذا التوجيه للمنافع راجع إلى تصورهم الحج على أنه مجموعة أعمال تعبدية حصراً.

أما الذي يظهر لنا من القرآن أن الحج هو قصد بيت الله الحرام بغرض التجارة والعبادة, فالحاج يسافر إلى مكة ليتاجر ويذكر اسم الله في أيام معدودات, ومن الممكن أن يعكف كذلك هناك على عبادة الله: “… وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج : 25]”.
(ولقد بيّنا سابقاً في موضوع: كفر أهل الكتاب بالبيت, أن الجزء التعبدي من الحج هو لذكر الله وشكره على أكبر نعمه علينا وهي نعمة: الأنعام)
ولهذا من الممكن أن يعتمر المسلم في أشهر الحج ثم يظل في مكة متمتعا/ منتفعا متاجراً إلى الحج, وفي هذه الحالة فعليه هدي من الأنعام:
“…. فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة : 196]”

فشهور الحج هي موسم تجاري كبير يستمر ثلاثة أشهر, من الممكن أن يتاجر فيها المرء حتى تبدأ الأيام المعدودات المعلومات التي يُذكر فيها اسم الله والتي تبدأ بالذهاب إلى عرفات:

” لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨)”

فإذا بدأت هذه الأيام انقطعت التجارة وتفرغ الناس لذكر الله ولشكره على بهيمة الأنعام.
(وحديث القرآنيين عن أنه من الممكن للإنسان أن يؤدي أعمال الحج التعبدية في أي أيام في أشهر الحج هو كلام لا وزن له, فابتغاء الفضل هو المتاح طيلة هذه الشهور, أما الذكر والجانب التعبدي فلا يؤدى إلا في هذه الأيام المعلومة)
ويؤكد هذا قوله سبحانه:

جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة : 97]
فالكعبة قياماً للناس, ولم يجعل الله للناس في القرآن قياماً إلا بالكعبة والأموال:
وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً [النساء : 5]
ويختلف موسم الحج عن غيره من المواسم التجارية أنه موسم صدق, فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج:
“الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٧)”
فالمعاملات التجارية في هذه الشهور تتميز بالصراحة والشفافية لكونها عند بيت الله تعالى.
ولا يعني قولنا أن النفع للحاجين أن أهل مكة لا ينتفعون, فكون هذه السوق الكبيرة تُعقد على أراضيهم, والناس يأتون إليها من كل مكان ببضائعهم فيها نفع كبير لهم, فهم يشترون منهم ويبيعون لهم, ناهيك عن مزية أن البضائع تأتي إليهم ولا يسافرون هم إليها:
” وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [القصص : 57]”
وهذا تأويل دعاء الخليل إبراهيم في سابق الزمان قد جعله الله حقاً:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة : 126]
وقد نُهي المسلمون عن استحلال من يقصدون البيت الحرام للتجارة وللذكر:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة : 2]
(لاحظ أن ابتغاء الفضل قبل الرضوان, كما كانت المنافع قبل الذكر)
فعليهم ألا يستبيحوا أو يستحلوا شعائر الله مثل البدن والصفا والمروة والمزدلفة أو الشهر أو الهدي وهي الأنعام التي ستُذبح عند البيت بعد التمتع بالعمرة إلى الحج, وكذلك لا يستحلون القلائد والتي قيل أنها الأنعام المقلدة التي يقلدها أصحابها – أي يضعون في رقبتها قلادة – علامة على نذرها لله; ويطلقونها ترعى حتى تنحر في موعد النذر ومكانه, ومن الممكن أن تكون –والله أعلم- هي الأنعام المعدة للبيع عن البيت الحرام.

وبهذا نفهم كيف يكون إنسان عند بيت الله الحرام ويدعوه طالباً الدنيا فقط:
“… فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (٢٠٠)”
فهذا أتى بالدرجة الأولى طالباً الدنيا للتجارة, وحتى وهو في أيام ذكر الله المعدودات فكل همه الدنيا فيدعو لمزيد من الربح وينسى آخرته!!

إذا فالمسلم يقصد البيت ليتاجر ويذكر الله على ما رزقه من بهيمة الأنعام وعلينا أن نأكل منها ونطعم البائس الفقير, ثم بعد ذلك هو يحج ليقضي تفثه.

(ولم يقل لنا اللغويون ما هو التفث, وإنما أخذوا بما روي عن ابن عباس بأن التفث هو الحلق والتقصير والرمي والذبح والأخذ من الشارب واللحية ونتف الإبط وقص الإظفار) قال:”وكذلك هو عند جميع أهل التفسير أي الخروج من الإحرام, حيث استقر القول عندهم بأن التفث هو الوسخ والقاذورات!! وأن المراد من قضاء التفث هو إزالة الوسخ!! ولست أدري كيف يكون القضاء بمعنى الإزالة!!!!

والحق أن الكلمة أتعبتني حتى حددت معناها! فالمشهور أن التفث هو الوسخ وهو ما لا يتفق مع الأصل: “ت ف ث” والذي هو قريب في البناء من: “ت ف ل” والأصل: “ن ف ث”, وهو حتماً قريب منهما في المعنى, ثم توصلت إلى أن المراد من التفث هو إراقة الدماء (وهو ضرب من ضروب الخروج من الجسد مثل التفل والنفث) ونجد ابن منظور يقول في لسان العرب تحت الكلمة:

“وفي الحديث: فتَفَّثَت الدماءُ مكانه أَي لَطَّخَتْه، وهو مأْخوذ منه.”
كما أن الله تعالى قرن التفث بالقضاء “ليقضوا تفثهم”, وهو ما قرنه كذلك بالمناسك: ” فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ “
والمناسك ليست كل أعمال الحج كما يظن أغلب المسلمين وإلا كيف يقضي الإنسان نسكه ثم يكون لا يزال مطالباً بذكر الله! فالنسك هو الذبح والمنسك هو المذبح: ” وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤)”

والمذبح الأعظم والأوحد للمسلمين جميعا هو عند بيت الله الذي رفع الخليل إبراهيم قواعده, يُذبح عنده إلى قيام الساعة.
وهذا ما يتفق مع سياق الآيات فالمسلم أتى لينتفع وليذكر الله على نعمة الأنعام ثم بعد ذلك يذبح الأنعام ذكرا لله وشكراً ويوفي النذور التي نذرها في البلد الأمين ويطوف بالبيت العتيق.

وبالقول بأن موسم الحج تجاري/ تعبدي نفهم لماذا تحدث الرب العليم عن التعظيم:
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠)

فالإنسان الذي يذهب ليتجر قد ينسى حرمة البيت وحرمة البلد وحرمة الغش والكذب … الخ لذلك كان التذكير بالحرمات, بخلاف الذي يذهب فقط لبيت الله فهو معظم عنده بداهة ولولا ذلك لما خرج أصلاً.
(والعجب أن الأوثان لم تذكر في كتاب الله إلا مرتبطة بالخليل إبراهيم, فجاءت مرتين في سورة العنكبوت:
” إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت : 17]
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا .. [العنكبوت : 25]”

وذُكرت كذلك في هذه السورة لتأمر المسلمين باجتناب الرجس من الأوثان, أي أنه عند حج المسلمين البيت وهو تحت سيطرة المشركين فعليهم تجنب الأوثان, فكيف يكون الحج عبادة وثنية؟!!!)
وعلى المسلم أن يحنف لله غير مشرك به وأن يعظم شعائر الله, ويبين الله أنه لن يصل إلي الله لا اللحوم ولا الدماء وإنما هي التقوى بفعل المأمور وذبح الأنعام المسخرة لنا لوجه الله:
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)

ولا يطلب الناس عند البيت فقط الرزق وإنما كذلك الأمن –الذي يمتد فيشمل الحيوانات كذلك-, فلا قتال ولا صيد عند البيت:
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة : 125]

وليس البيت فقط هو الذي يطوف به وإنما كذلك هضبة الصفا والمروة فهما كذلك من شعائر الله, وعلى المسلم التطوف بهما:
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة : 158]

ونلاحظ أن القرآن استعمل التطوف مع البيت العتيق وكذلك مع الصفا والمروة, (وهي نفس الكلمة التي استعملت مع دخول الأبناء على الأباء في سورة النور: “طوافون عليكم” وكذلك مع الولدان المخلدون, واستعمال صيغة التفعل يدل على تكرار الطواف بهما)
وهي ما وردت في أكثر الروايات, مثل:
” حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ … وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ….. فَانْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ ….. وَيَزْعُمُ قَوْمُكَ أَنَّهُ طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى بَعِيرٍ وَأَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ فَقَالَ صَدَقُوا وَكَذَبُوا فَقُلْتُ وَمَا صَدَقُوا وَكَذَبُوا فَقَالَ صَدَقُوا قَدْ طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى بَعِيرٍ وَكَذَبُوا لَيْسَ بِسُنَّةٍ …… “
ومن ثم فعلينا أن نعدل اسم العمل إلى: الطواف بالصفا والمروة وليس: السعي بين الصفا والمروة, فهو طواف حدث من النبي سعياً, فلا نسمي العمل بعارض وإنما باسمه الأصلي.

وبعد هذا العرض نتساءل: أين الوثنية في التجارة وذكر اسم الله عند بيته؟!
لقد رمانا غير المسلمين بالوثنية بحجة أننا أخذنا عبادة جاهلية! وكما رأينا فهي ليست جاهلية وإنما هي إتباع لملة أبينا إبراهيم.

ولا يعني طواف المسلمين بالبيت أنه مثل عبادة الأوثان, فالوثنية تكون بتقديس تمثال لذاته أو لكونه رمزاً لحيوان أو لإنسان أو حتى لإله فوق طبيعي, بينما نحن لا نقدس البيت ولا نقول أنه رمز لله, وإنما هو مسجد مثل أي مسجد ومزيته أنه أول بيت وضع للناس, فالطواف هو مثل الصلاة بالضبط ولا فارق!

ولم أجد أحداً اعترض على صلاة المسلمين لاحتوائها أكبر قدر من التجريد, لأننا لا نصلي لوثن أو لصورة وإنما هي ذكر لله في حركات مخصوصة في بيت من بيوته أو في أي مكان مناجاةً لرب العالمين, وكذلك ما يفعله الحاجون هو ذكر لله في حركات مخصوصة في بيت الله الأول, فنحن لا نذكر البيت وإنما نذكر الله! ولست أدري ما المانع أن يكون الطواف هو هيئة الصلاة الأولى مع أو قبل إبراهيم, ثم اختلفت هيئتها مع النبي موسى ومحمد؟!! والمسلمون يصلون عند البيت كما صلى السابقون الأولون؟!

وأين الوثنية في أن يقف المسلمون يوماً كاملاً على مكان ما (جبل عرفات) يذكرون الله ويستغفرونه؟! أو أن يذكروه لأيام ثلاثة في مكان آخر (مِنى)؟!

تبقى النقطة الأخيرة وهي مسألة رمي الجمرات والتي لم يقدم المسلمون أنفسهم لها تبريراً معقولاً, إلا ما ورد في رواية تقول أن هذا اقتداء بفعل الخليل إبراهيم عندما عرض له الشيطان, مثل ما روي عن ابن عباس:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ جِبْرِيلَ ذَهَبَ بِإِبْرَاهِيمَ إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فَسَاخَ ثُمَّ أَتَى الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فَسَاخَ ثُمَّ أَتَى الْجَمْرَةَ الْقُصْوَى فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فَسَاخَ فَلَمَّا أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ أَنْ يَذْبَحَ ابْنَهُ إِسْحَاقَ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ أَوْثِقْنِي لَا أَضْطَرِبُ فَيَنْتَضِحَ عَلَيْكَ مِنْ دَمِي إِذَا ذَبَحْتَنِي فَشَدَّهُ فَلَمَّا أَخَذَ الشَّفْرَةَ فَأَرَادَ أَنْ يَذْبَحَهُ نُودِيَ مِنْ خَلْفِهِ: { أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا }”
إلا أن هذه الروايات –بغض النظر عن تهافتها متناً- ضعيفة سنداً بتضعيف علماء الحديث أنفسهم, وعلى الرغم من ضعف الروايات فإن القول المعتمد هو أن هذا الرمي هو فعل رمزي, تمثيلاً لرجم الشيطان.

وهذا التوجيه راجع إلى ظنهم أن رمي الجمار هو رمي لشيء بالجمار, وهذا الشيء هو الجدار أو النصب الذي يتفنن المسلمون في رميه والذي لم يكن موجودا في زمان النبي.

مع أن الروايات تصرح أن الذي يُرمَى هو الجمار –والتي هي مناطق, اسم كل واحدة منها: جمرة كذا, والجمرة لغة: مجتمع الحصى فهي مناطق تَجمّع حصى ولذلك سميت بجمرة كذا- وأن الجمار تُرمى بالحصى, فالمسلم يرمي الجمار بسبع حصي, فنجد الإمام أحمد يروي في مسنده:
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ وَلَا يُصِيبُ بَعْضُكُمْ وَإِذَا رَمَيْتُمْ الْجَمْرَةَ فَارْمُوهَا بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ فَرَمَى بِسَبْعٍ وَلَمْ يَقِفْ وَخَلْفَهُ رَجُلٌ يَسْتُرُهُ قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ
والإمام أبو يعلي الموصلي يروي في مسنده:
حدثني عبد الرحمن بن يزيد ، أنه « كان مع عبد الله بن مسعود حين رمى جمرة العقبة فاستبطن الوادي فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة . فقلت له : يا أبا عبد الرحمن ، إن الناس يرمونها من فوقها . فقال ابن مسعود : هذا والذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة »

عن الفضل بن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم « لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ، فرماها بسبع حصيات ، ويكبر مع كل حصاة »
وابن حبان في صحيحه:
عن عائشة قالت : أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الظهر ، ثم رجع إلى منى ، فأقام بها أيام التشريق الثلاث ، يرمي الجمار حتى تزول الشمس بسبع حصيات كل جمرة ، ويكبر مع كل حصاة تكبيرة يقف عند الأولى ، وعند الوسطى ببطن الوادي ، فيطيل المقام ، وينصرف إذا رمى الكبرى ، ولا يقف عندها ، وكانت الجمار من آثار إبراهيم صلوات الله عليه
وأبو عوانة في مستخرجه:
باب ذكر الخبر المبين أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر عند الضحى ، ولم يرم غيرها ، وأنه رماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ، وأنه كان يرمي بعد ذلك الجمرات كلها بعد زوال الشمس ، وأن الجمار وتر ورميها وتر ، وصفة رمي الجمار أيام منى ، والجمرة التي يبدأ بها ، وما بعدها ، والعمل عند كل واحد منها” اهـ

وكما رأينا فالجمار مناطق, فالإنسان المسلم يرمي مناطق بعينها ولا يرمي الشيطان أو ما شابه!
والناظر يجد أن رمي الجمار بالحصي هو العمل الوحيد من أعمال الحج الذي لم يرد له ذكر في القرآن, وهذا في حد ذاته كافٍ للحكم عليه بعدم الوجوب, وإن كان ثمة روايات تؤيد هذا القول, فنجد الأزرقي يروي في كتابه: أخبار مكة:
عن ابن عباس ، قال : المحصب ليس بشيء ، إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والمحصب كما ورد في لسان العرب: ” والمحصب: موضع رمي الجمار بمنى, لأنه اسم مكان من حصب, والذي يعني رمى بالحصي, وهو ما يقوم به الحاجون! وليست الرواية الماضية هي الدليل وإنما الروايات التالية, مثل:
“عن أبي رافع – وكان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم – قال : لم يأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أنزل الأبطح ، ولكن ضربت فيه قبته ، فجاء فنزل قال سفيان : ثم سمعته من صالح بن كيسان بعد ذلك فحدث بمثله ، قال : أخبرنا سفيان أخبرنا عمرو بن دينار : اذهبوا إلى صالح بن كيسان ، فاسألوه عن حديث يذكره في المحصب ، وقدم معتمرا ، فجئناه فحدثنا به وكان عمرو قد حدثنا به عنه ، وبه حدثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن فاطمة بنت المنذر أن عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم لم تكونا تحصبان.

قال عطاء : لا تحصب ليلتئذ ، إنما هو مناخ الركبان قال : وكان أهل الجاهلية يحصبون قال ابن جريج : وكنت أسمع الناس يقولون لعطاء : إنما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ المحصب ينتظر عائشة ، فيقول: لا ، ولكن إنما هو مناخ للركبان فيقول : من شاء حصب ، ومن شاء لم يحصب.” اهـ

فالروايات تقول: من شاء حصب ومن شاء لم يحصب, وهم يفهمون الحصب بمعنى النزول بالمحصب, بينما الحصب هو الرمي بالحجارة.

وأنا أميل إلى أن رمي الجمار هو ليس رمزا لرمي الشيطان وإنما لرمي العصاة الفاسقين من قوم لوط,الذين قال الله في حقهم:
” إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ [القمر : 34]”
لاحظ “حاصب” و المكان اسمه: “المحصب”
وقوم لوط –كما أرى, وكما بينت في موضوع سابق- كانوا بالقرب من أهل مكة, حتى أنهم كانوا يمرون عليهم صباحا ومساءً: ” وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وبالليل”, وهم قوم أهلكهم الله بالحاصب, وقال في حقهم:
“وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [العنكبوت : 35]”, فهل تكون هذه هي الآية؟!

ربما كان هذا المكان محل قريتهم, فلذلك تُرمى هذه الأماكن إلى قيام الساعة لعنة أبدية عليهم… والله أعلم.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

توحيد الروايات

بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله ربنا وخالقنا ومالك أمرنا، بيده الخلق والتدبير والتصريف، يهدي من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.