لماذا الأنبياء من ذرية واحدة؟

 لماذا الأنبياء عرب؟! ولماذا قص الله الأحداث التي جرت فقط في جزيرة العرب؟! سؤال طرحه ويطرحه كثيرٌ على أنفسهم … والآخرين؟!
هل في العرب مزية معينة, جعلت الأنبياء منهم؟! هل هم شعب الله المختار؟! لماذا يرسل الله أنبياءً من أمة “متخلفة” في هذه المجتمعات البسيطة, ويقص أحوالهم في كتابه الخاتم ولا يقص قصص أنبياء الأمم العظيمة مثل أنبياء القبط وفارس والهند والصين, إذا كان قد أُرسل إليهم؟!

سؤال حيّرني كثيراً ثم فتح الله العلي لي فيه, فليست المسألة مسألة شعب وإنما مسألة ذرية مصطفاة … محبة .. راغبة .. طالبة!!
ولقد بين الله العليم آلية الاصطفاء, سواءً للأنبياء أو لغيرهم في قوله: “إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران : 33-34]

ومسألة أن الأنبياء كلهم من ذرية واحدة “ذرية نوح وإبراهيم” مسألة معروفة عند عامة المسلمين, إلا أنها غير معللة تعليلاً مقبولا! وذلك لأنهم لم يضعوا آخر الآية: “والله سميع عليم”, في سياقها السليم!

فالله العليم يختم حديثه عن الاصطفاء بقوله أنه سميع .. عليم! أي أن الاصطفاء قائم على سمع وعلم, ومن ثم فهناك من نادى وسمع الله نداءه, وهو وحده أعلم بمن يستحق الاصطفاء!
إذا فآلية الاصطفاء قائمة على أنه ثمة ذرية معينة من البشر, بعضها من بعض, توارثت سمات معينة, أحبت الله حباً جما, وتعلقت به تعلقاً شديداً, وأحبت أن تكون من السائرين في طريقه! فنادوا الله وناجوه! فسمع الله دعائهم وعلم بحالهم, فاصطفى من هؤلاء المحبين المتعلقين, كلاً على حسب حاله, فاصطفى من يصلح للنبوة لها, ومن يصلح لمرتبة أقل لها ..
وكل يُصطفى لدورٍ حسب حاله ومكنته! فليست المسألة مسألة حب فقط, وإنما حب وقدرة ورغبة! ولأن أصول الأنبياء تعلقت بالله تعلقاً شديداً ورغبت في أن تُكمل ذريتها بعدها المسيرة, أورثت ذريتها هذه المحبة والرغبة, فجاءت الأنبياء كلهم من نسل آدم ونوح وإبراهيم!

ولا يعني قولنا هذا أن الأنبياء دعوا الله قبل بعثتهم أن يكونوا أنبياء, وإنما نعني أن رؤوسهم كانوا محبين الله مشتاقين الله, فأنعم الله عليهم بالنبوة والرسالة, ثم دعا هؤلاء الأنبياء بعدما رأوا الفتوحات الربانية في النبوة أن يجعل الله النبوة في ذريتهم, فاستجاب الله العليم لهم.

وبغض النظر عن الخليل الذي دعا الله أن يجعل الإمامة في ذريته, فإن من يقرأ الآيات التالية يجد قولنا مستخرجاً منها, فهي نماذج لتوارث النبوة أو إيجادها بناءً على دعاء الآباء الصالحين: “إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٧) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٨) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) (…) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢) (..) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥)”


فنجد الآيات تذكر امرأة عمران التي نذرت ما في بطنها لله, وبعد ولادتها لم تكتف بإعاذة ابنتها وإنما كذلك ذريتها, وعندما رأى زكريا ما يحدث مع مريم نادى ربه نداءً خفيا أن يهب له ذرية طيبة يرث آل يعقوب والنبوة, فبشرته الملائكة بنبي … قبل أن يولد! واستجابة لدعاء امرأة عمران اصطفى الله مريم, وجعل من نسلها عيسى عليه السلام, وبشرتها الملائكة بنبوته من قبل أن يولد كذلك!

وبالإضافة إلى مسألة حب الله المتوارث فهناك مسألة العلم به! فهؤلاء توارثوا معرفة الله بأسماءه الحسنى, معرفة سليمة بعيدة عن الغلو والشطط والتجسيد منذ الأجيال الأولى للبشرية حيث كانت الحضارة الأولى … العربية, وهذه نقطة لم تكن متوفرة لدى كثير من المجتمعات البشرية, التي شاب تصور الإله عندها تصورات وثنية تجسيدية! فهؤلاء أعرف الخلق بالله.


لذا علينا أن نصحح نظرنا للأنبياء ولظروف بعثتهم, فلا ننظر إليهم كأفراد في أمة متخلفة, حولها الحضارات العظيمة, وإنما ننظر إليهم باعتبارهم مبعوثين في أمة كانت مهد الحضارات, فأنشأت حضارة قبل كل الحضارات ثم انهارت في الوقت الذي كان الآخرون ينشئون حضاراتهم, وكان أتباعها يعيشون مرحلة الانهيار, والأنبياء أبناء بيئتهم!

ويجب أن نتذكر أن هذا كان حال المتأخرين منهم وليس حال كل الأنبياء, فلقد بُعث الأنبياء الأوائل في الحضارات الأولى, فمع الحضارة الأولى كان هود ثم صالح. وبعدها أخذ العرب في الانتقال والانتشار في أنحاء العالم, ونشأت حضارات في أماكن أخرى مثل وادي النيل وفارس … الخ!

إلا أنها كانت بمثابة الفروع, بينما كان الأصل هناك في جزيرة العرب, ومن الأصل الأصح معرفة بالله كان الله يبعث الرسل! ثم يحمل أبناء الجزيرة العقيدة إلى الأمم المجاورة! ومن جزيرة العرب أخذت كل الحضارات معتقداتها ثم أصابها ما أصابها من التحريف والإضافة!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

في نقد الخطاب الشبابي

في المبتدأ ماذا أقصد ب “الخطاب الشبابي” الذي أود نقده؟! لأن هذا التعبير غير متداول، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.