المشاركة الألف: لماذا/كيف الهلاك؟!

يعترض الملاحدة على مسألة الإهلاك الدنيوي بقولهم:
كيف يهلك الله الرحيم الأمم, ألا تتدخل رحمته فترفع هذا العذاب والإهلاك عن هؤلاء البشر الضعاف؟
وإذا كان بعض هؤلاء قد فعل ما يستحق به الهلاك فعلا, فما ذنب الأبرياء الآخرين, وما ذنب الأطفال والشيوخ, الذين لم يرتكبوا جرما حتى يهلكوا مع الظالمين؟!

ولقد حاول بعض علماء العقيدة (الإيمانيات) الإجابة على هذه الأسئلة, فقدموا بعض الإجابات عن الحكمة من الإهلاك وعن تحقق العدل فيه, ولأن هذه القضية لم تكن مطروحة بشكل كبير, وكذلك لم تكن الإجابات بالتفصيل الكافي, لذا نبدأ بعون الله في تقديم تصورنا حول مسألة الإهلاك العقابي, والذي نرى فيه بإذن الله إجابة هذه الأسئلة.

وقبل أن نبدأ نوضح أننا لن نتحدث في هذا الموضوع عن الهلاك البسيط, الذي ينزل ببعض المنازل أو بعض الأراضي الزراعية, لأن هذا يُعد من مقويات الإنسان, التي يُفترض أن تزيده صلابة وتؤهله لأن يتجاوز ما هو أصعب, والأحمق هو من توقفه هذه الصغائر!

وبعد هذا التمهيد, نبدأ فنقول:
على من يقع الإهلاك؟
هل يهلك الله اعتباطا, فيقع الهلاك على أي جماعة, أم أن الله ينزله على جماعات بعينها في وقته؟!


إذا نظرنا في كتاب الله تعالى وجدنا أن هذه المسألة جد واضحة, فالله تعالى لا يهلك هكذا اعتباطا, وإنما ينزل الهلاك بمن يستحقه عندما لا يكون له حجة في فعله, فلا إهلاك قبل الإنذار والتعريف:
وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ [الشعراء : 208]

فتأتي النذر –رسلا وغير رسل- فتنذر فيعرض الناس, ولكن المهم أن الغفلة رُفعت, فلم يعد هؤلاء الأقوام في غفلة من نزول الهلاك, (وإنما في حالة استعماء, ومن أعمى نفسه يستحق الهلاك!):
ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام : 131]

كما أن الهلاك لا ينزل بالمصلحين (ثمت فارق كبير بين الصالح والمصلح, فالصالح لنفسه, والمصلح متعد لغيره), لأن الإصلاح يغطي الظلم:
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود : 117]

كما أن الهلاك لا ينزل إلا بمستحقيه, فالإنسان هو الذي يهلك نفسه, لا أن الله تعالى ينشأ الهلاك له:
أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ [الأنعام : 6]

فكما يقال: من كلامك أدينك.
فكذلك: بذنوبك أهلكك!!
لذلك نجد أن الهلاك ينزل بالظالمين:
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [يونس : 13]

فكما نرى, فهؤلاء ظلمة مرفوعوا الحجة, بمجيء الرسل بالبينات, لذا فهم يستحقون الهلاك.
ونفس هذا المعنى –من زاوية أخرى- نجده في قوله تعالى:
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص : 58-59]
فكما نرى, حجة مرفوعة, بطر وظلم مؤد إلى العذاب.

وكذلك ينزل بالمجرمين (وهم ظالمون حتما):
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [الدخان : 37]
وكذلك ينزل بالطغاة المفسدين الظالمين:
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى [النجم : 50-52]
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ [الفجر : 11-13]


كما أن الإهلاك لا ينزل هكذا في أي وقت, وإنما يأتي بعد أن يُمنح المجتمع أكثر من فرصة (كما يُمنح الفرد) وبعد أن يصل إلى درجة من الفساد, فهنا يحين الأجل وينزل الهلاك:
وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ [الحجر : 4-5]

كما أن الله عزوجل عرّف البشر طريقة تجنب الهلاك, بل وطريق فتح البركات, إلا أنهم معرضون:
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف : 96]
فمن أعرض عن البركة ورضى بالظلم, لا يستحق إلا الهلاك!

فإذا تركنا مسألة نزول العذاب بمن يستحقه, ننتقل إلى فلسفة الإهلاك, فنقول: تتعلق هذه المسألة بالدرجة الأولى بتصور الإنسان لدور الإله في الحياة ولمكانته ودوره هو –كإنسان- فيها.

فالمعترضون على هذه المسألة يريدون جنة بلا مقابل, فيرون أنه يجب على الله تعالى أن يهيئ لهم أفضل الظروف, ويوفر لهم كل ما يحتاجون, بل وينشأهم على هيئة الملائكة أو أفضل! وهكذا ينشأ الإنسان في جنة النعيم, يتقلب فيها كيف يشاء, فلا يضر أحد ولا يضره أحد. وبما أنه لم يفعل, فهو إما غير موجود, أو أنه إله ظالم غير رحيم!

ولكن شاء الله الحكيم أن يوضع الإنسان في اختبار بسيط, يظهر كيف سيستغل هذا الإنسان النعم الكبيرة التي أنعم الله عزوجل بها عليه, فإما أن يستخدمها في الطريق القويم فيرقي بها نفسه وينفع بها غيره ويكون عونا وسندا لهم, أو ينتكس إلى طريق الحيوانية فيضيع نفسه ويؤذي غيره.

فإذا كان من الصنف الأول كان ممن يرقي نفسه في الدنيا ويستحق الترقية الكبرى بعد وفاته بدخول دار الخلد, دار النعيم, أما إذا أتلف الإنسان هذه النعم فلا يستحق أن يحصل على غيرها, ويكون من العدل أن يوضع في المكان الملائم للطبائع الحيوانية السبعية, فيستحق التردية الكبرى بالدخول في نار الجحيم, استكمالا لمسلسل التردي, الذي ابتدأه في دار الدنيا.

إذن فمبتدأ الأمر إنعام من الله, فلا اعتراض على الخلق في هذه الدنيا والمطالبة بالإنشاء في جنات النعيم مباشرة. فإذا انتقلنا إلى النقطة الرئيس وهي تصورهم لدور الله الخلاق العليم بالنسبة للإنسان

فهم يريدون أن يكون الله تعالى وجل “حارسا شخصيا” للإنسان, يصاحبه منذ أن يضع أبوه نطفته في رحم أمه, فيتكفل أن تخرج هذه النطفة سليمة خالية من العيوب, ثم يتابعه بالرعاية والعناية فلا يمسه أي أذى أو ضر في حياته كلها!
ثم يريدون في عين الوقت أن يكون الإنسان حرا! (ناقشنا مصطلح الحرية في كتابنا: السوبرمان بين نيتشه والقرآن, وبينا أنه استعمال غير سليم والأولى استعمال مصطلح: الخيارية)

وهكذا ينتفع الإنسان –في منظورهم- بلذائذ اختيارته ويتكفل الله عزوجل بحماية الإنسان من كل ضر وسوء!!
وكما تلاحظ عزيزي القارئ فإن هذا تصور طفولي ساذج, لإنسان يريد ألا يتحمل تبعات أفعاله! ويريد التبرؤ منها كلية ورميها على الغير.

ولقد شاء الله تعالى للإنسان أن يكون مختارا, وضريبة الاختيار تحمل التبعات, فله ما فعل وعليه ما فعل, ويتدخل الله عزوجل متى شاء كيفما يشاء, فلا يلزمه الإنسان بشيء!

ولا يعني ذلك أننا نقول أن الله تعالى لم يتكفل بحفظ الإنسان, ولا وجود أو تأثير له في حياته, لا, فالله تعالى خير الحافظين:

” فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف : 64]”
وهناك ملائكة حافظون للبشر:
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ [الإنفطار : 10]
ولكل إنسان منا ملاكه الحافظ:
إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ [الطارق : 4]
والذي يتدخل بمشيئة الله تعالى, فيحفظ الإنسان في كثير من مواطن الضر.
ولكن هذا كله لا يعني أن يتحول الملائكة إلى حرس شخصيين للإنسان, يمنعونه في كل موقف, وهكذا بدلا من أن يتشاجر بشريان سنجد أن الملائكة المخصصة لحفظ كل منهما تتشاجر مع الأخرى من أجل حمائة مرؤسها!!!!
وهذا تصور مترد لا يقول به أو يقبله عاقل!!

لقد خلق الله تعالى الإنسان في كون مخلوق بالحق, قائم بالحق, أي أن له قوانينه التي يسير عليها, والتي يخضع لها الإنسان, فلم يريد أن يكون هو استثناءً لها؟! والله تعالى يقول:
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ …. [المؤمنون:71]

إن كل إنسان يود أن يسير الكون كله لمصلحته, فيود المزارع أن تأتي المياة كما يحتاج, فلا تزيد فتغرق أو تقل فيجف الزرع, كما يود الربان أن تأتي الرياح بما تشتهي السفن … الشراعية, كما يود الإنسان أن لا يكون الجو حارا أو بردا جدا ….. وهكذا إلى آخر تمنيات الإنسان الباطلة والتي ستؤدي به إلى كائن مترهل كسول!

ولو لم يُخلق ويقم الكون بالحق لما استطاع الإنسان أن يعيش فيه, لأنه لن يستطيع أن يعرف كيف يتعامل معه, وهكذا يظل في حيرة أبدية!

ولقد أمد الله تعالى الإنسان بالبرنامج الذي يمكنه من الانسجام الكلي مع الطبيعة, والذي يجد به وفيه راحة نفسه وسكنها, فإذا أعرض عنه ولم يلتفت إليه بدأ تصادمه مع الطبيعة, وإذا صادم الإنسان الطبيعة فلا بد أن تصدمه.
ولقد نبهنا الله تعالى إلى هذه الحقيقة فقال:
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم : 41]

فالفساد الموجود هو بما كسبت أيدي الناس, فالناس يفسدون ولا يعرفون بالنتائج المترتبة على أفعالهم, وإنما يرونها أمامهم رأي العين, ثم يصرون على نسبتها إلى الطبيعة!

وكما قلنا في الموضوع السابق فإن عامة عمل الإنسان مستمر بعد موته, وكذلك فإن أثر أعمال الإنسان تكون في العالم كله, فلا يُشترط أن يظهر ضر عمل الإنسان في مكانه فقد يتعداه إلى غيره, وإلى كثير غيره

ولأن الله تعالى رحيم بعباده فإنه يذيقهم بهذا بعض الذي عملوا, ولا يذيقهم كل الذي عملوا. وبهذا يكون الإنسان هو من يظلم نفسه أو يظلم أخاه الإنسان:
“إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس : 44]”
إذن فالإنسان هو من يفسد وعليه تحمل عاقبة الفساد, ولقد كرر الله تعالى هذا المعنى في عديد آيات, فقال:
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران : 165]

إذا فالمصائب تكون من الناس, والله تعالى رحيم يمنع الكثير من الضر ولكن لا بد أن يصل للإنسان بعض نتائج أفعاله:
وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى : 30]
فالله الرحيم يعفو عن كثير, وما يصيب الإنسان هو الأقل!

والإنسان هو خلقة الله تعالى, والخالق أحرص ما يكون على ما خلق, وكما أن الإنسان خلق الله فكذلك باقي الكون مخلوق لله, والله يريد الحفاظ على كليهما, لا أنه يريد الحفاظ على الإنسان فقط, وليذهب الكون إلى الهلاك!
فالكون مخلوق كما أن الإنسان مخلوق (وكلاهما أحياء)

والكون السليم ضرورة لوجود الإنسان, ولو فسد الكون لهلك الإنسان من تلقاء نفسه, لذا نجد أن الله تعالى ينهانا عن الفساد والإفساد في كثير من الآيات ويعرفنا عدم حبه له, فيقول:
” وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ [البقرة : 205]”
وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف : 74]

وبعد هذه المقدمة الطويلة نصل إلى النقطة المحورية, التي تبين أن الله تعالى رحيم عادل في إهلاكه للأمم, -وإن كان بداخلهم بداهة الأطفال والشيوخ ومن لم يرتكب كثير الذنوب-, وهي أن هذا الإهلاك ضرورة للمحافظة على الأرض والعباد الآخرين, وهذا هو عين العدل والرحمة.

ونفصل فنقول:
إذا نظرنا في كتاب الله تعالى وجدنا أن سبب الإماتة ينحصر في أمرين اثنين (بينما مبررها واحد وهو الإحياء: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة : 179]), وهما القتل ظلما والفساد في الأرض, ويظهر هذا في عدد من الآيات, مثل قوله تعالى:

“مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة : 32]”

فكما نرى فالإفساد في الأرض مبرر منطقي لأن يُقلع هذا الإنسان من الحياة, حتى ينخلع عنصر الفساد, حتى يتوفر الأمن للباقين, ولو تركناه لاستشرى وزاد, مثل أي جرثومة تتسلل إلى جسد الإنسان, فتبدأ صغيرة ضعيفة ثم تكثر حتى تهلك الجسد كله.

والإفساد في الأرض مضرة كبرى, لا بد من رفعها بجميع السبل, وفي هذا يقول الرب العظيم:
فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَة
ولا يعنينا الآن الحديث عن سنة التدافع, ولكن الذي نريد إظهاره هو أن هناك كثير من البشر سيهلكون حتما في هذا التدافع! ولكن هذا الهلاك لا يُلتفت إليه من أجل الحفاظ على الأرض –مسرح البشرية في كل الأجيال- وباقي البشر, الذين يحيون في هذا الجيل, والتضحية بالجزء اليسير –بعد محاولات العلاج الكثيرة- مقبول ومطلوب من أجل الحفاظ على الكل.

ومن هذا المنظور العادل تُهلك الأمم كلها بأطفالها وأبرياءها, ونفصل فنقول:
لا توجد أمة كلها طاغية, كما لا يوجد إنسان كله شر, وهذه الأمم الطاغية طغت بسبب بعض أفرادها (المترفون), والذين يسوقون الأمة إلى طريق الإفساد في الأرض والاعتداء على الغير! فهناك قواد وذيول, ولا يمكن أن يفسد إنسان إلا مع وجود الكثير والكثير من الذيول, التي تنجز له هذا الإفساد (وما أسهل السيطرة على الذيول بالشهوات!) ويشارك كل إنسان بنصيب في هذا الإفساد والاعتداء, حتى ولو كانت هذه المشاركة بالسكوت على الباطل.

فإذا أخذنا دولة طاغية مثل الولايات المتحدة الأمريكية, نجد أنها تفسد في الأرض أشد الإفساد, وتهلك الحرث والنسل, وتحارب منهج الله, وتحتل العباد وتدمر البلاد, فهل شارك كل أفرادها فيما تفعله؟!

لم يشارك الجميع بالفعل, ولكنهم شاركوا بنسبة جزئية بالصمت على العدوان والالتهاء بالشهوات المادية, وشاركوا بتقبل الاستعماء والرضى بالحيوانية.
فليس كل هؤلاء أُجبروا على هذا, وإنما رضوا به واستكانوا ولم يبحثوا عن غيره, لحبهم الشهوات:

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً [النساء : 97-99]
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ [الزخرف : 54]
فلقد أصبح هذا الفساد موافقا لطباع الذيول لانتفاعهم به, ولذا هم يسكتون!

وليس لهذه المشاركة البسيطة تهلك الأمم, وإنما للإفساد الذي وقع من المجموع, فهذا المجموع (القواد والذيول) يفسد في الأرض, وعاقبة الفساد تقع على الأرض والعباد, ولكي يُرفع هذا الفساد محافظة على البشر الآخرين وعلى الأرض كلها, لا بد أن يهلك هذا المجموع الفاسد بأكمله, كما يُعدم القاتل ويبتر العضو الفاسد من الجسد, حتى لا يفسد الجسد كله فيموت!

فكما أنه قد يوجد في الذراع المقطوع بعض الخلايا السليمة, إلا أن العلاج الوحيد لهذا العضو هو البتر, فتضيع هذه الخلايا مع العضو كله.

قد يتفذلك بعض الملاحدة, الذين يريدون من “يهرش” لهم, فيقول:
ولم لا ينزل الله عذابا بالكبار المفسدين فقط, فيستأصلهم ويبقى المساكين, الذين لم يجرموا شيئا, ألا يستطيع أن يفعل هذا؟!

فنقول: بلى يستطيع, ولكن المشكلة أن هؤلاء المساكين أصبحوا مطية, فهم مساكين لأنهم لا يقدرون على الإفساد, باختصار هم برؤاء لضعفهم, ولا يحتاج الأمر إلا إلى ظهور بعض الأقوياء, والذين سيقودونهم حيث يشاءون. كما أن هؤلاء القواد عملوا على زرع بذور إدمان الشهوات في نفوس هؤلاء, فأصبحت حياتهم لها, وهكذا يصبح هؤلاء مثل الخلايا السليمة التي نُزعت من عضو مسرطن, فهي قابلة للإصابة بسرطان أكثر من غيرها!
لذا فإن إيقاع الإهلاك بالأقوام كاملة لا ظلم فيه, وإنما هو رحمة وحماية للبشر الآخرين وللأرض.

ونلاحظ أن الله تعالى كان يتعهد الجماعة المؤمنة بالرسل –على مر تاريخ الإنسان- بالحماية, فإذا صممت الجماعة الكافرة على عدم الإيمان والإفساد في الأرض, أهلكها الله تعالى وأنجى المؤمنين, حتى يستمر التوحيد ويحافظ عليه, ولو تركهم لضاع الإيمان في كثير من المناطق!

ولقد قص الله تعالى علينا بعضا من قصص إهلاكه لهذه الأقوام, والمشكلة أن كثيرا من المؤمنين وغير المؤمنين يفهم القصص بطريقة غيبية, فيتساءل:
لم لم يعد الله تعالى يتدخل ليهلك الأمم الفاسدة؟!!
وهذا الذي يسأل السؤال هو إنسان أعمى, فكما أهلك الله تعالى بعض الأمم السابقة بالرياح والفيضانات والصواعق, يهلك بعض الأمم بنفس الأدوات وهي الطبيعة, وحتى الحجارة (حتى لا يقول أحدهم: وهل الحجارة التي تُرسل من السماء من الطبيعة؟!)

فما هي إلا أرتال وأسراب من النيازك الصغيرة!!! والملائكة طبعا هي من توجه هذه العناصر الطبيعية بدون أن نراها, وهذه هي مشكلتهم, فهم يظنون أن الملائكة كانت تظهر لمن تهلكهم, فتقول لهم: بخ …عاوووو! ثم تنزل بهم العذاب!!!!!!!

إذن فعجلة الإهلاك لا تزال تدور, والفارق أن الإنسان القديم كان يُقر ويأوب عند نزول العذاب:
“فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر : 84-85]”
أما الإنسان الحديث فيصر على عماه ويقول: ثورة من ثورات الطبيعة!

وهنا نسأل الملاحدة:
إذا كان الإنسان خلق صدفة ومن الممكن أن يموت في ثورة من ثورات الطبيعة, فما أبأس هذه الحياة العبثية؟!
أما الإنسان المؤمن فيعلم أن المعادلة ستختلف كلية عندما يكون الله تعالى الطرف الأول فيها.

فالله تعالى خلق الإنسان ووضعه في اختبار على سطح الأرض, وهو الذي قرر أن ينهي الاختبار لمجموعة من البشر بفيضان أو زلزال أو ما شابه, وهذا سيؤخذ في الاعتبار عند الحساب, فالله تعالى يحكي قول المصطرخين في النار:

وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر : 37]

فهؤلاء مُنحوا فرصا كثيرة للتذكر وعلى الرغم من ذلك أصروا على موقفهم, أما من لم يُعط الفرص الكافية فسيكون حسابه على قدر الفرص التي أعطاها, فإذا هلك الإنسان مثلا في مرحلة الطفولة فهذا في مصلحته لأن الاختبار أنهي مبكرا بدون أن يتحمل وزرا, وإذا أنهي في مرحلة الشباب والمراهقة فسيكون هناك مراعاة لأن الإنسان في مرحلة غلمة, يبحث فيها بالدرجة الأولى عن سد حاجاته,

ولقد أظهر الله تعالى في القرآن هذه المسألة فقال:
” …. حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الأحقاف : 15]”

فهناك مراعاة للمرحلة العمرية التي يكون فيها الإنسان, والتي على أساسها سيُقيم المجموع الذي يحصل إليه سلبا وإيجابا على أعماله, فمن عصى في مرحلة الغلمة ليس كمن ارتكبها في سن الهرم.

ذن فالإهلاك في مصلحة كل من ذاقه ولكن بدرجات متفاوتة, فهناك من كان نفعه في أن انقطع عن الذنوب التي كان يفعلها فيتوقف عند هذا الحد, وهكذا يقل عذابه في اليوم الآخر, وهناك من يكون نفعه في أن يرتفع عنه العذاب المادي (فقر, بؤس, جوع, مرض) والذي كان يلاقيه في الدنيا, وهناك من يكون نفعه بأن يموت مبكرا, فتراعى المرحلة العمرية التي كان فيها

وهناك من يموت في مرحلة الطفولة فلا يحمل أوزارا ولا آثاما ولا يعاني في هذه البلدة الظالم أهلها, فلا يظلموه ولا يظلم هو غيره.

وكما قلنا سابقا فإن الإهلاك لا يقع إلا على المجتمعات الظالمة, وأفرادها إما ظالم أو مظلوم, فجُنب الهالك أن يكون أحدهما!

كما أن مسألة الهلاك هذه ليست مما يُعترض بها على الله خالق الكون, فكما يصدر الله تعالى الحكم على الأفراد بالموت, فتنتهي حياتهم الدنيا لأي سبب كان, ولا يعترض أحد على موت/هلاك الأبرياء والأطفال, فما الفارق بين موتهم فرادى وبين موتهم مجتمعين؟!!!

وبغض النظر عن العبرة والعظة في إهلاك الفاسدين, ألا يعلم كل الناس أنه سيأتي يوم يهلك فيه كل البشر وتبدل الأرض غير الأرض (بغض النظر عن إيمانهم بذلك من عدمه)؟, ألا يعرفون أن هذا التبديل سيكون لإنهاء الحياة, ولبدء حياة جديدة أفضل, يتحقق فيها العدل والجزاء, فلماذا لا ينظرون إلى إهلاك الأمم بنفس المنظور؟!

ألا يرون في إهلاك الأمم إنهاء لظلم كبير كان واقعا على أمم أخرى؟ وتحقيق لعدالة, لم يستطع الضعفاء إيقاعها على أرض الواقع؟ ألا يرون في هذا الإهلاك فرصة لمن بقى من هذه الأمة أن يبدأ بداية جديدة, يخالف فيها النهج الذي سار عليه سلفهم الطالح, حتى لا يصل إلى ما وصلوا إليه؟!

إن من يؤمن بالدينونة لا يرى في إهلاك الأمم إلا نموذجا مصغرا, فهو يعلم أنه سيأتي يوم يعم فيه الإهلاك كل قاطني الأرض, حتى تبدأ الحياة الجديدة, وهذا الإهلاك لن يكون إلا بعد أن يصل الإنسان إلى نهاية رحلته في استكشاف هذا الكوكب, وعندما يظن أنه سيطر عليه يحين الوقت لإنهاء الرحلة الإنسانية, لأنه لن يكون هناك أي معنى لوجود الإنسان على سطح الأرض, حيث ستصبح الحياة عبثا, وهنا ينهيها الله عزوجل.

وكما تُنهى حياة البشر العبثية كلها, تنهى حياة الأمم كذلك, فعندما تسيطر العبثية على أفعال وأفكار وتوجهات قاداتها يحين وقت إهلاكها, لأن العبثية مفضية لا محالة إلى الفساد, وهو مؤذن بنزول الهلاك.

وأي أمة لا بد أن تمر بهذه المرحلة في فترة من فترات وجودها على سطح الكوكب الأرضي, فالأمم تمر بمراحل حياة مثل الأفراد, طفولة, شباب, نضج, هرم, موت! 

ولقد قال الرب العليم:
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ [يس : 68]
فالإنسان الذي يعمر ينكس, ولا بد أن يموت بعدها, وكذلك الأمم التي تعمر لا بد أن تصاب بالانتكاسة في آخر مراحلها, وتكون هذه الانتكاسة سببا لموتها, ثم تنشأ أمة جديدة تمر بالمراحل نفسها: طفولة, شباب …. وهكذا.
فإذا كان من الممكن أن يوجد بعض الأفراد, الذين يجتنبون مواطن الإفساد, فمن المستحيل أن توجد أمة تحافظ على النهج ذاته طيلة فترة وجودها على الأرض, فلزاما أن تنحرف

لذلك كان القانون الإلهي بالإهلاك العام, والذي يقول:
وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً [الإسراء : 58]
وهكذا يتساوى كل البشر في الإهلاك (بأفعالهم, فالله لا يظلمهم) فلن تبقى أمة بدون هلاك, والفارق أن بعضهم يذوقه أكثر من مرة (في أجيال مختلفة) وهناك من يذوقه مرة أو مرات أقل, ثم تأتي الخاتمة فتذوقه قرى الأرض كلها.

إذا وكما رأينا فإن إهلاك البشر هو لحكمة وليس فعلا اعتباطيا, كما أن هذا الإهلاك هو عين العدل والرحمة, ولو لم يهلك الله تعالى لكان هذا ظلما وقسوة! وكما رأينا فإن سنة الله في التعامل مع الأمم هي نفس سنته في التعامل مع الأفراد, إلا أننا نتعامى عن الآيات الجليات!

وقبل أن نختم هذا المبحث, نعرج سريعا على مسألة: كيفية الإهلاك, لنزيل اللبس الموجود حول هذه النقطة, فنقول:
يعتقد كثيرون أن الإهلاك لا يكون إلا بالطبيعة, المرحلة النهائية (نزول العذاب مثل الفيضانات أو الرياح أو الزلازل والبراكين ….), وهذا فعلا المرحلة الأخيرة الظاهرة وليس أصل الإهلاك ولا كل وسائله, فالهلاك نفسه يكون من الإنسان, وهو الذي يهلك نفسه بنفسه

فالإهلاك عملية طويلة مستمرة, لا تحدث ولا تكون في لحظة, وإنما يبتدأها وينشأها الإنسان بنفسه لنفسه, ويختمها الله تعالى بأمره وبملائكته.

فإذا نظرنا في كتاب الله تعالى وجدناه يقول:
وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ [الأعراف : 4]

ونلاحظ هنا أن الآية تتحدث عن كثير من القرى جاءها البأس بعد أن أُهلكت, لاحظ: أهلكناها ف جاءها بأسنا, أي أن البأس جاء بعد الإهلاك, ولقد احتار المفسرون في توجيه الآية, فقالوا أن الإهلاك بمعنى: حكمنا بإهلاكها أو أردنا إهلاكها, أو أن الفاء تفسيرية, ما بعدها مفسر لما قبلها, فيكون مجيء البأس هو الإهلاك.

إلا أننا نفهم الآية فهما مباشرا, فلقد استشرت عناصر الهلاك في هذه الأمة وأصبحت مفسخة الأوصال, فلم يبق إلا نزول الضربة القاضية التي تنهي عملية الهلاك التي بدأها هؤلاء, فلقد عرفهم الله طريق الرشاد وحذرهم طريق الغي, إلا أنهم أصروا على العناد والغي, فأهلكوا أنفسهم, فرحمهم الله ومن بجوارهم فأهلكهم.

وأهم عنصر من عناصر الفساد والهلاك هو عدم الإيمان بالله تعالى, ثم عدم اتباع منهجه. والأمم تتبع لا محالة منهج الله وتخالفه (حتى ولو لم تؤمن به, لأنه هو أول من أنزله إلى الأرض, ثم أخذه البشر وعدوه اجتهادات وإبداعات بشرية!!!),

وبقدر الالتقاء مع منهج الله تعالى يُكتب للأمة المعيشة والاستمرار, وبقدر بعدها عن منهج الله تعالى يُعجل لها بالهلاك, وكما قال الإمام بن تيمية: الله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة, ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة!

فإذا كنت الدولة مؤمنة ولا تراعي اليتيم ولا المسكين فسيقدر عليها رزقها, وإذا كان المؤمنون لا ينفقون في سبيل الله فسيهلكون لا محالة:

وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة : 195]
وإذا كان الإنسان ممن يعرض عن المنهج ويصر على التجربة بذاته فهو ممن يهلك نفسه:
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام : 26]
وعامة فإن مخالفة المنهج في أي فرع من فروعه لا بد أن يؤدي إلى هلاك جزئي أو كلي بقدر!

وكما تكون المرحلة الأخيرة من الطبيعة, تكون من البشر, فكما يسلط الله تعالى الطبيعة على الأمم الفاسدة المفسدة الهازلة, يسلط البشر على المجتمعات المتفسخة فيهلكونها, فيكون هذا الاحتلال ضربة قاضية ومرحلة فاصلة في حياة الأمة, وما فعل التتار بحاضرة الدولة العباسية ببعيد, وإشارة لها ولغيرها لكي تغير النهج وتعود إلى الدرب القويم.

إذا فعلى الإنسان أن يعرف أن الهلاك عملية مستمرة عنصرها الرئيس هو فعل الإنسان المستمر في اتجاه خاطئ مخالف لسنة الله وكونه, وبمرور الزمن يتراكم هذا الفعل ويعظم, إلى أن يصل إلى مرحلة إفساد عظمى لا يستطيع معها أي إصلاح, فيكون العلاج الوحيد هو … البتر.
فليس الطبيب الذي يقتطع جزءً من رئة إنسان مدخن لسنوات طوال هو الذي أهلك المدخن, وإنما هو المعالج!

غفر الله لنا ولكم الزلل والخلل, وجعلنا من يصلحون ولا يفسدون, وممن يبصرون ولا يستعمون.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!


عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نقد رفض التعقل

من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.