هذا المبحث مأخوذ من كتابي: فقه الإنسان!
بسم الله الرحمن الرحيم
"وما الدنيا إلا مسرح .. تقليدٍ كبير!"
عبر قرون طويلة أخذ التقليد في المنظومة الفقهية الدينية منزلة كبيرة, حتى أنه لا يمكن الآن تصور وجود مسلم متدين غير مقلد! ولكن ما هو التقليد؟! يقول ابن أمير الحاج: "التقليد: العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج الأربع الشرعية بلا حجة منها, فليس الرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع منه أي من التقليد على هذا, لأن كلا منهما حجة شرعية من الحجج الأربع, وكذا ليس منه على هذا عمل العامي بقول المفتي " اهـ
ولم يقتصر التقليد في المنظومة المنشأة على العمل, وإنما تعداه كذلك إلى الاعتقاد, فاعتقد المسلمون أحكاماً وإيمانيات –بدون عمل- استناداً إلى قول بشري –غير النبي- بدون استناده إلى دليل شرعي من كتاب وسنة (وإجماع وقياس), واعتبروا قول (فتوى) إنسان بشرٍ مثلهم حجة شرعية يُعتمد عليها! ولم يكن هذا المسلك معروفاً في القرون الأولى من الإسلام, وإنما هو مما ظهر لاحقاً, ولقد انتقد الإمام ابن حزم هذا المسلك, فقال:
"وليعلم مَن قرأ كتابنا، أن هذه البدعة العظيمة –نعني التقليد– إنما حدثت في الناس وابتُدئ بها بعد الأربعين ومئة من تاريخ الهجرة، وبعد أزيد من مئة عام وثلاثين عاماً بعد وفاة رسول الله. وأنه لم يكن قط في الإسلام قبل الوقت الذي ذكرنا مسلم واحدٌ فصاعداً على هذه البدعة، ولا وجد فيهم رجل يقلد عالماً بعينه، فيتبع أقواله في الفتيا، فيأخذ بها ولا يخالف شيئاً منها. ثم ابتدأت هذه البدعة من حين ذكرنا في العصر الرابع في القرن المذموم، ثم لم تزل تزيد حتى عمَّت بعد المئتين من الهجرة عموماً طبق الأرض، إلا من عصم الله –عز وجل– وتمسك بالأمر الأول الذي كان عليه الصحابة والتابعون وتابعو التابعين بلا خلاف من أحد منهم. نسأل الله تعالى أن يثبِّتنا عليه، وأن لا يعدل بنا عنه، وأن يتوب على من تورَّط في هذه الكبيرة من إخواننا المسلمين " اهـ
وإنكار التقليد ليس ببدع من القول, فهذا هو المشهور من قول كبار الأئمة, فلقد نهوا جميعاً عن تقليدهم, لأنهم كانوا يعلمون أن أقوالهم ما هي إلا اجتهادات وإرشادات ولا ينبغي الثبات عليها, وإنما النظر دوماً في الأدلة والخروج منها بما يتفق مع مستجدات كل عصر, إلا أن أتباعهم خالفوهم وقلدوهم وجعلوا أقوالهم دينا ثابتاً! وفي هذا يقول الإمام الشوكاني: "إن التقليد لم يحدث إلاّ بعد انقراض خير القرون ثم الّذين يلونهم، ثم الّذين يلونهم، وإن حدوث التمذهب بمذاهب الأئمة الأربعة، إنّما كان بعد انقراض عصر الأئمة الأربعة، وإنهم كانوا على نمط من تقدمهم من السلف في هجر التقليد، وعدم الاعتداد به، وإن هذه المذاهب إنّما أحدثها عوام المقلدة لأنفسهم من دون أن يأذن بها إمام من الأئمة المجتهدين. " اهـ
وللمرة الثانية يُحاد عن إرشادات المسار, ثم يُبرر للسير في الطريق المنحرف وجعله ديناً, فأولاً نهى الرسول عن كتابة أحاديثه وخولف وبُررت الكتابة, ثم نهى الفقهاء عن تقليدهم, وقُلدوا وبُرر التقليد! وأصبح دينا!!!
ولقد اختلف العلماء بشأن حكم هذا المسلك في دين الله, "وبالإمكان حصر تلك الأقوال وإرجاعها إلى ثلاثة: الأول: القول بالتحريم مطلقاً, وعلى رأس هذا الاتجاه ابن حزم الظاهري، والإمام الشافعي، والشوكاني، ومعتزلة بغداد، وعلماء حلب من الإمامية، وابن القيم والإخباريون من الإمامية. فابن حزم يقول: لا يحل لأحد أن يقلد أحداً، لا حياً ولا ميتاً، ومن أدعى وجوب تقليد العامي للمفتي فقد أدعى الباطل، وقال قولاً لم يأت به قط نص قرآني ولا سنة ولا إجماع ولا قياس. وقال الشافعي في منع التقليد :
"مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيها أفعى تلدغه، وهو لا يدري".
الثاني: جواز التقليد سواءا على باب الوجوب أو الإباحة, واستدل هؤلاء المجوزون ببعض أدلة على قولهم, منها: " ... فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" [الأنبياء : 7], "فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" [التوبة : 122], والدليل الثالث دليلٌ عقلي حيث أن الاشتغال بالتقليد يؤدي إلى هلاك الحرث والنسل والله تعالى يقول :" ... َمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ..[الحج : 78] " اهـ
وسيميل القارئ إلى الرأي القائل بجواز التقليد لأن هذا هو المعتمد بين عامة المسلمين, ولبديهية راسخة لديه تقول: قد يستطيع العلماء المجتهدون استخراج الأحكام من الأدلة تبعاً للقواعد الفقهية, أما العامي فلن يستطيع استخراجها إذا نزلت به نازلة, ومن ثم فيجوز التقليد!
ولقد حاول الإمام ابن حزم تجاوز هذه الإشكالية فقال: "إنا قد بينا تحريم الله تعالى للتقليد جملة ولم يخص الله تعالى بذلك عامياً من عالم ولا عالماً من عامي, وخطاب الله تعالى متوجه إلى كل أحد فالتقليد حرام على العبد المجلوب من بلده والعامي والعذراء المخدرة والراعي في شعف الجبال كما هو حرام على العالم المتبحر ولا فرق. والاجتهاد في طلب حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما خص المرء من دينه لازم لكل من ذكرنا كلزومه للعالم المتبحر ولا فرق, فمن قلد من كل من ذكرنا فقد عصى الله عز وجل وأثم ولكن يختلفون في كيفية الاجتهاد فلا يلزم المرء منه إلا مقدار ما يستطيع عليه (....) فاجتهاد العامي إذا سأل العالم على أمور دينه فأفتاه أن يقول له هكذا أمر الله ورسوله فإن قال له نعم أخذ بقوله ولم يلزمه أكثر من هذا البحث, وإن قال له: لا أو قال له: هذا قولي. أو قال له: هذا قول مالك أو ابن القاسم أو أبي حنيفة أو أبي يوسف أو الشافعي أو أحمد أو داود أو سمى له أحد من صاحب أو تابع فمن دونهما غير النبي صلى الله عليه وسلم أو انتهزه أو سكت عنه فحرام على السائل أن يأخذ بفتياه, وفرض عليه أن يسأل غيره من العلماء وأن يطلبه حيث كان إذ إنما يسأل المسلم من سأل من العلماء عن نازلة تنزل به ليخبره بحكم الله تعالى وحكم محمد (...) وفرض على الفقيه إذا علم أن الذي أفتاه به هو في نص القرآن والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الإجماع أن يقول له نعم هكذا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم, وحرام عليه أن ينسب إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم شيئا قاله بقياس أو استحسان أو تقليد لأحد دون النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إن فعل ذلك كان بذلك كاذباً على رسوله عليه السلام ومقوّلا له ما لم يقل " اهـ
بسم الله الرحمن الرحيم
"وما الدنيا إلا مسرح .. تقليدٍ كبير!"
عبر قرون طويلة أخذ التقليد في المنظومة الفقهية الدينية منزلة كبيرة, حتى أنه لا يمكن الآن تصور وجود مسلم متدين غير مقلد! ولكن ما هو التقليد؟! يقول ابن أمير الحاج: "التقليد: العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج الأربع الشرعية بلا حجة منها, فليس الرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع منه أي من التقليد على هذا, لأن كلا منهما حجة شرعية من الحجج الأربع, وكذا ليس منه على هذا عمل العامي بقول المفتي " اهـ
ولم يقتصر التقليد في المنظومة المنشأة على العمل, وإنما تعداه كذلك إلى الاعتقاد, فاعتقد المسلمون أحكاماً وإيمانيات –بدون عمل- استناداً إلى قول بشري –غير النبي- بدون استناده إلى دليل شرعي من كتاب وسنة (وإجماع وقياس), واعتبروا قول (فتوى) إنسان بشرٍ مثلهم حجة شرعية يُعتمد عليها! ولم يكن هذا المسلك معروفاً في القرون الأولى من الإسلام, وإنما هو مما ظهر لاحقاً, ولقد انتقد الإمام ابن حزم هذا المسلك, فقال:
"وليعلم مَن قرأ كتابنا، أن هذه البدعة العظيمة –نعني التقليد– إنما حدثت في الناس وابتُدئ بها بعد الأربعين ومئة من تاريخ الهجرة، وبعد أزيد من مئة عام وثلاثين عاماً بعد وفاة رسول الله. وأنه لم يكن قط في الإسلام قبل الوقت الذي ذكرنا مسلم واحدٌ فصاعداً على هذه البدعة، ولا وجد فيهم رجل يقلد عالماً بعينه، فيتبع أقواله في الفتيا، فيأخذ بها ولا يخالف شيئاً منها. ثم ابتدأت هذه البدعة من حين ذكرنا في العصر الرابع في القرن المذموم، ثم لم تزل تزيد حتى عمَّت بعد المئتين من الهجرة عموماً طبق الأرض، إلا من عصم الله –عز وجل– وتمسك بالأمر الأول الذي كان عليه الصحابة والتابعون وتابعو التابعين بلا خلاف من أحد منهم. نسأل الله تعالى أن يثبِّتنا عليه، وأن لا يعدل بنا عنه، وأن يتوب على من تورَّط في هذه الكبيرة من إخواننا المسلمين " اهـ
وإنكار التقليد ليس ببدع من القول, فهذا هو المشهور من قول كبار الأئمة, فلقد نهوا جميعاً عن تقليدهم, لأنهم كانوا يعلمون أن أقوالهم ما هي إلا اجتهادات وإرشادات ولا ينبغي الثبات عليها, وإنما النظر دوماً في الأدلة والخروج منها بما يتفق مع مستجدات كل عصر, إلا أن أتباعهم خالفوهم وقلدوهم وجعلوا أقوالهم دينا ثابتاً! وفي هذا يقول الإمام الشوكاني: "إن التقليد لم يحدث إلاّ بعد انقراض خير القرون ثم الّذين يلونهم، ثم الّذين يلونهم، وإن حدوث التمذهب بمذاهب الأئمة الأربعة، إنّما كان بعد انقراض عصر الأئمة الأربعة، وإنهم كانوا على نمط من تقدمهم من السلف في هجر التقليد، وعدم الاعتداد به، وإن هذه المذاهب إنّما أحدثها عوام المقلدة لأنفسهم من دون أن يأذن بها إمام من الأئمة المجتهدين. " اهـ
وللمرة الثانية يُحاد عن إرشادات المسار, ثم يُبرر للسير في الطريق المنحرف وجعله ديناً, فأولاً نهى الرسول عن كتابة أحاديثه وخولف وبُررت الكتابة, ثم نهى الفقهاء عن تقليدهم, وقُلدوا وبُرر التقليد! وأصبح دينا!!!
ولقد اختلف العلماء بشأن حكم هذا المسلك في دين الله, "وبالإمكان حصر تلك الأقوال وإرجاعها إلى ثلاثة: الأول: القول بالتحريم مطلقاً, وعلى رأس هذا الاتجاه ابن حزم الظاهري، والإمام الشافعي، والشوكاني، ومعتزلة بغداد، وعلماء حلب من الإمامية، وابن القيم والإخباريون من الإمامية. فابن حزم يقول: لا يحل لأحد أن يقلد أحداً، لا حياً ولا ميتاً، ومن أدعى وجوب تقليد العامي للمفتي فقد أدعى الباطل، وقال قولاً لم يأت به قط نص قرآني ولا سنة ولا إجماع ولا قياس. وقال الشافعي في منع التقليد :
"مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيها أفعى تلدغه، وهو لا يدري".
الثاني: جواز التقليد سواءا على باب الوجوب أو الإباحة, واستدل هؤلاء المجوزون ببعض أدلة على قولهم, منها: " ... فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" [الأنبياء : 7], "فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" [التوبة : 122], والدليل الثالث دليلٌ عقلي حيث أن الاشتغال بالتقليد يؤدي إلى هلاك الحرث والنسل والله تعالى يقول :" ... َمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ..[الحج : 78] " اهـ
وسيميل القارئ إلى الرأي القائل بجواز التقليد لأن هذا هو المعتمد بين عامة المسلمين, ولبديهية راسخة لديه تقول: قد يستطيع العلماء المجتهدون استخراج الأحكام من الأدلة تبعاً للقواعد الفقهية, أما العامي فلن يستطيع استخراجها إذا نزلت به نازلة, ومن ثم فيجوز التقليد!
ولقد حاول الإمام ابن حزم تجاوز هذه الإشكالية فقال: "إنا قد بينا تحريم الله تعالى للتقليد جملة ولم يخص الله تعالى بذلك عامياً من عالم ولا عالماً من عامي, وخطاب الله تعالى متوجه إلى كل أحد فالتقليد حرام على العبد المجلوب من بلده والعامي والعذراء المخدرة والراعي في شعف الجبال كما هو حرام على العالم المتبحر ولا فرق. والاجتهاد في طلب حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما خص المرء من دينه لازم لكل من ذكرنا كلزومه للعالم المتبحر ولا فرق, فمن قلد من كل من ذكرنا فقد عصى الله عز وجل وأثم ولكن يختلفون في كيفية الاجتهاد فلا يلزم المرء منه إلا مقدار ما يستطيع عليه (....) فاجتهاد العامي إذا سأل العالم على أمور دينه فأفتاه أن يقول له هكذا أمر الله ورسوله فإن قال له نعم أخذ بقوله ولم يلزمه أكثر من هذا البحث, وإن قال له: لا أو قال له: هذا قولي. أو قال له: هذا قول مالك أو ابن القاسم أو أبي حنيفة أو أبي يوسف أو الشافعي أو أحمد أو داود أو سمى له أحد من صاحب أو تابع فمن دونهما غير النبي صلى الله عليه وسلم أو انتهزه أو سكت عنه فحرام على السائل أن يأخذ بفتياه, وفرض عليه أن يسأل غيره من العلماء وأن يطلبه حيث كان إذ إنما يسأل المسلم من سأل من العلماء عن نازلة تنزل به ليخبره بحكم الله تعالى وحكم محمد (...) وفرض على الفقيه إذا علم أن الذي أفتاه به هو في نص القرآن والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الإجماع أن يقول له نعم هكذا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم, وحرام عليه أن ينسب إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم شيئا قاله بقياس أو استحسان أو تقليد لأحد دون النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إن فعل ذلك كان بذلك كاذباً على رسوله عليه السلام ومقوّلا له ما لم يقل " اهـ
تعليق