حول “الإبصار”

كلنا يعرف نظرة الأطفال الصغار, والتي تحمل قدر من الخواء, والتي نربطها نحن البالغين بعدم الإدراك, و وكذلك جلنا يعرف نظرة “الأعمى”, والتي تسقط على “اللامحدد”, والتي نستطيع من خلالها معرفة أن هذا الشخص لا يبصر, ومع تقدم الأطفال في العمر تبدأ هذه النظرة في التلاشي, إلا أن نفس هذه النظرة غالباً ما تظهر لدينا كبالغين في لحظات معينة, عندما لا نعي شيئاً أو سؤالاً ما!

وهنا نتساءل: ما الذي تغير عند الطفل, استتبعه تلاشي هذه النظرة الخاوية؟

الإجابة هي بكل وضوح: الإدراك, فالطفل لم يكن في بداية حياته “يعي” هذه الأشياء المحيطة به ولا دلالاتها ولا قوانينها, ومع الوقت وتبعاً لما يُلقنه الطفل وتبعا للمحفزات التي يتعرض لها وكذلك لقدراته الموروثة يبدأ عقل الطفل في استخلاص “القواعد” العامة الناظمة لما يحيط به, فيبدأ في استخلاص قواعد اللغة التي يُلقنها, ثم يبدأ في استخدامها تبعا لما استخلص, ويبدأ في التعامل مع –أو استخدام- ما يحيط به تبعاً لقواعد عامة بسيطة, ترجع في المقام الأول إلى: النفع والضر وإلى الصلاحية وعدمها, ومع تقدم الطفل في العمر يبدأ في اكتساب الجديد من الموازين التي يقدر بها الأمور, والتي يُفترض فيها أنها تؤهله لأن يحقق استقلالية ذاتية, وانفصالا عن فترة الحضانة الأبوية, وقدرة على مواجهة الحياة بنفسه, وقدرة على الحكم على الأشياء والمواقف وعلى اختيار الأنسب!

والسؤال المحوري للمقال: متى يستطيع “الإنسان” أن يبصر .. بعينيه هو, وليس بأعين والديه أو بعين مجتمعه؟! فنقول: لو تعاملنا مع السؤال كمرحلة واحدة فلن يكون له إجابة محددة, بينما لو تعاملنا معه كمرحلتين منفصلتين, فيمكننا أن نعطي إجابة, فنقول: يمكن للإنسان أن يبصر في العقد الثاني من عمره, ويتفاوت حدوث الإبصار ووضوحه بين شخص وآخر, تبعاً للبديهيات العقلية التي غرست لديه, ومن ثم يمكن التعامل معه باعتباره إنسانا واعياً مدركاً, وهو ما يحدث في كل المجتمعات البشرية تقريبا, وهو ما يمكننا تسميته مجازاً ب: “محو الأمية الإدراكية” أو “انفراجة الجفنين”.

ومشكلة الإنسان مع الإبصار أنه يكتفي بهذه الانفراجة البسيطة, ظنا منه أنه لا يحتاج إلى أكثر من هذا, بدلاً من محاولة أن يفتح عينيه أكثر!! وذلك لأن الإنسان عجول بطبعه, فمنذ الطفولة المبكرة -ربما بعد معرفته أسماء الأشياء وقدرته على تكوين جمل صحيحة, – يظن أنه أصبح بصيراً, يدرك الأمور ومآلاتها وأدوارها كأبويه أو أفضل, ومن ثم يمكنه الحكم بمفرده على الأشياء, هل هي جيدة أم سيئة, مقبولة أم مرفوضة, كيف ينبغي أن يكون رد الفعل للفعل الفلاني, كيف ينبغي التصرف في الموقف الفلاني؟! لذا يبدأ في التمرد على التوجيهات الأبوية والتصرف تبعاً لرؤيته للعالم –الصغير- حوله.

ورغما عن أن رؤية الطفل/ المراهق/ الشاب للعالم  قد تتغير مرات عديدة تبعا للتجارب التي يمر بها والمعارف التي يتحصل عليها في هذه المرحلة, إلا أنه دوما وفي كل مرحلة لا يرى أن عينه غير بصيرة, لا يلتفت إلى أن لديه قصور/ إشكال ما في “الإبصار”, وهكذا يظل يتحرك طيلة عمره بقين تام, أنه يرى الأمور والأشياء على حقيقتها وعلى مقدارها! ورغما عن هذا, فطالما أن هناك تغير مستمر في الرؤية مع الخبرات والمعارف فإن هذا يعني انفتاح أكبر للعين وقدرة أفضل على الإبصار, وأنه –ربما يكون- على الطريق الصحيح, وللأسف فإن الأقلية هي من تفعل هذا, بينما يقوم أكثر البشر بعد مرحلة عمرية معينة, يقومون بإغلاق أعينهم وإبصار العالم تبعاً لما استقر لديهم في مرحلة الطفولة والشباب مثلاً, بدلاً من إدخال هذه الخبرات وضمها إلى سابقيها من أجل انتاج ميزان أفضل توزن به الأمور.

ورغما عن أن ما يشاهده الإنسان هو في نهاية المطاف هو جزء جد ضئيل من المشهد, إلا أنه يظن أنه يرى العالم لحدوده, كما يبصر بعينه خط الأفق, حيث تلتقي السماء بالأرض! رغما عن أنه غالباً ما يستنزف أكثر عمره في إبصار “لقمة عيشه” غافلا عن العالم!! إن “عالم الشهادة” لا يقتصر فقط على العالم المادي الموجود, وإنما يتعداه إلى “عالم الفكر” الافتراضي, والذي يتبعه عالم “الفعل”, وهذه العوالم هي من التعقيد بمكان, فمكوناتها عديدة ومتداخلة ومتغيرة, ناهيك عن أنها متجددة, مثل الطريق تماما, فكلما تسير أكثر تتكشف أمامك مساحة جديدة بمعالم جديدة, ومع هذا التداخل والتغير على الإنسان أن يكون له حكمه الخاص, فأي الأمور عام وأيها خاص, وأيها يمكن أن يُخصص أو يُعمم, وأيها أصل وأيها استثناء وأيها ثابت وأي متغير, وأيها يمكن أن يتغير بجهد فردي وأيها يتغير بجهد أممي عبر عصور, وهل الشيء دوره أم أن له معنى وغاية أكبر وأوسع من هذا بكثير, وهل هناك معنى أصلا أم لا؟! ما الذي يمكن القياس عليه باعتباره ظاهرة مكرورة بظهورات مختلفة … الخ.

إذا فعامة البشر منشغلون بإبصار العالم سواء بعين شبه مغلقة أو بعين مفتوحة بدرجة أكبر, بينما هناك قلة نادرة من البشر هي من تنشغل بعينها ذاتها, وتتساءل: كيف تبصر هذه العين؟ وهل مستنداتها في الإبصار سليمة أم لا؟! وما الذي –قد- تحتاجه من أجل إبصار أفضل, وما الذي قد يمنعها من الإبصار, وما الذي قد يؤدي إلى إغلاق مرحلي أو دائم, هذا ما سنحاول القيام به في المقالات القادمة بإذن الله.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

في توالد المفردات في البدء كان “الاسم”

في مقالين سابقين تحدثت عن نشأة “التسمية”, أي كيف تم إعطاء دوال للمدلولات, فلم تعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.