حول امتهان الفعل الإنساني

حول “امتهان” الفعل الإنساني

أول ما يواجه الإنسان الحياة فإنه –على الغالب- يواجهها من خلال أسرة, توفر له كل احتياجاته بدون مقابل, بل وتقدم له هذه الاحتياجات مغلفة بغلاف من الحب والحنان
ومع الوقت يكبر الإنسان ويكتشف أن عليه الخروج من هذه الجنة, وأن عليه أن يدفع ثمنا للحصول على هذه الاحتياجات, ويمكن الحصول على هذا الثمن بمقابل وهو: العمل للاكتساب! (قديماً كانت المرأة مستثناة من هذا, فكانت –ولا زالت- يمكنها الحصول عليها بتقديم الحب والرعاية, ك –منشأ لأسرة- زوجة وأم ويتكفل الرجل بالاكتساب)

وفي بداية رحلة البشرية كان مجال الاكتساب/ العمل بسيطاً يكاد يقتصر على الصيد والزراعة, ثم ازداد اتساعا, فبدأت التجارة, حيث يقايض الأفراد منتوجاتهم الطبيعية بمنتوجات مغايرة لدى الأفراد الآخرين, ثم تطور الأمر إلى البيع! حيث يُقدم المنتج مقابل “المال”.

ومنذ قديم الزمان عُرف كذلك بيع “الجهد”, فكان هناك دوما “الأجراء”, الذين يبيعون جهدهم بمقابل, سواء في العمل في المزارع أو في البيوت ك: خدمة.
وكان عامة البشر يقومون ب “صناعة” الأدوات أو المنتجات البسيطة التي يحتاجون. ولعشرات القرون كان عدد “الصناع” في أي مجتمع إنساني قليل, مقارنة بالمزارعين أو التجار. وفي العصر الحديث عصر الآلة زاد كم وكيف التصنيع كثيراً, وإن ظل عدد المصنعين قليلاً, فالمُصنِّع هو الآلة, والإنسان يقوم بدور أو بخطوة ما في عملية التصنيع هذا, بينما تتكفل الآلة أو الآلات بالتصنيع.

واستقر في وجدان البشرية أن هناك نموذج الأسرة والعلاقات الإنسانية –الراقية- والتي هي قائمة على الحب والمشاعر, وهناك العمل والذي هو بمقابل.

وفي كل المجتمعات الإنسانية كانت “المهن” التي تقدم الأدوار الإنسانية الأساسية تواجه بنوع من الاحتقار, قارن مثلاً نظرتك أنت لعامل في مصنع أو أجير في حقل, بخادمة تعمل في البيوت –حيث هذا الدور شبيه بدور: الأم, وهو دور مقدس المفترض أن يكون بلا مقابل-, وكذلك العاهرة, والتي لا تقوم بتأجير جهدها, وإنما جسدها, وهو دور مشابه لدور الزوجة, والذي يُفترض فيه كذلك أنها تُقدمه “حبا” وارتباطا بشريك حياتها.

وهكذا ومع تقدم ونمو المجتمعات كانت هناك دوما مهن جديدة تظهر –ارجع إلى مقالنا: من التعقيد إلى الانسداد-, إلا أن معدل ظهور المهن, وطبيعتها –وهذا هو الأهم- اختلف وتسارع كثيرا في عصرنا الحديث, فأصبحت المهن الجديدة تقضي باستمرار على مساحة “العلاقات الإنسانية” أو الفعل الإنساني والذي هو نابع عن الارتباط وبلا مقابل!

والأمثلة على هذا كثيرة, فمثلا كان الجيران والأقارب يتعاونون فيما بينهم لنقل الأثاث وادخاله المنزل, أصبحت هناك شركات تقوم بنقل الأثاث وإدخاله, كان الأهل هم من يتولون ترتيب حفل الزفاف وتجهيزه, أصبح الآن هناك من يقوم ب “تصميم” حفل الزفاف من أجلك!

كانت الأم تستيقظ في الصباح الباكر لتقوم بإعداد الخبز الساخن, وكانت تطهو وتجهز أصنافا مختلفة من الطعام, بداية من المعجنات ومرورا بطعام الغداء وانتهاء بالحلويات والمملحات! الآن أصبح هناك محلات موجودة لتقديم أصناف معينة من الأطعمة, ناهيك عن وجود المطاعم, والتي يقصدها أفراد الأسرة لتناول الطعام فيها للدلع –راجع مقالنا عن: الدلع- وليس للترفيه!

قديما كان دور التربية هو الوالدين –ورجال الدين- والأسرة الكبيرة, الآن انتقل الدور إلى الروضة فالمدرسة والمدرسين! كان الإنسان الناضج عندما تواجهه مشكلة يستشير أقرانه أو من هو أكبر منه من دائرة معارفه وأقاربه, بينما الآن أصبح هناك من يعرفون ب: “الخبراء الاجتماعيون”, أو خبراء العلاقات الأسرية, وظاهرة الخبراء وإن لم تكن منتشرة في بلادنا ولكنها منتشرة في بلاد الغرب, ونحن سائرون على خطاهم, وستنتشر, وسيصبح هناك لكل كبيرة وصغير “خبير” تدفع له مقابل!

ولم يقتصر “الامتهان” على الفعل الإنساني, وإنما تعداه إلى “المقدس”, حيث تم تحويل دور الأنبياء والمصلحين إلى مهنة, فأصبح هناك الشيخ والقسيس الذي يعمل بمقابل! ولك أن تقارن بين أثر موعظة صوفي زاهد أو إنسان “متدين” ملتزم بشيخ موظف! ولك أن تقارن تأثير قصيدة شعرية ركيكة كتبها محب لحبيبته بأقوى قصائد العشق والغرام!

والأمثلة على “امتهان” الفعل الإنساني كثيرة, ونكتفي بهذا القدر المذكور! وننتقل لنوضع الآثار الكارثية الكبيرة المترتبة على هذا “الامتهان”, والتي هي مادية ومعنوية,
فمثلاً: الإنسان المعاصر ينتج كميات هائلة من القمامة, وقارن هذه الكميات ب عمليات “إعادة التدوير” المباشرة للأشياء الموجودة سواء الطبيعية أو خلافها, لاحظ مثلا استخدام الفلاحين لكل ما يحيط بهم! واستخدام الملابس القديمة والأشياء القديمة لأغراض أخرى غير الدور التي صنعت له, فهي وإن لم تعد صالحة له الآن إلا أنها صالحة لهذا الدور. بينما الآن يتم تصنيع “آلة” لكل شيء, قطعة قماش بمواصفات معينة لإمساك الآنية الساخنة, قطًاعة بمواصفات معينة لقطع كذا .. الخ!

ويترتب على هذا الامتهان كذلك “العزلة”, فقديما كان الإنسان “يعالج” احتياجاته بواسطة أهله وأقرانه وأصدقائه, وهو ما يترتب عليه زيادة تواصل معهم وارتباط بهم, بينما الآن الإنسان يعالج احتياجاته ب “عمال متخصصين” يدفع لهم مقابل عملهم!
وطالما أن العمل بمقابل .. طالما أنه قابل للشراء أو الاستئجار, فإنه يفقد معناه! لاحظ أن طعام الأم ليس مجرد غذاء وإنما هو طعام يقدم مجانا مصحوب –بل: مصنوع- بالحب والعناية, وغالبا ما يُتناول في وجود أفراد الأسرة, الذين يشكلون جواً من الدفء والحنان! وكذلك يفقد الإنسان “الأمان”, فهو يعيش بين أفراد لا علاقة لهم به, ولم تفلح كل الأبواب المصفحة الإليكترونية الحديثة في منح الإنسان الشعور بالأمان الذي يجده بين “أهله”.

ويترتب على “الامتهان” كذلك: المادية, حيث تتحول الحياة إلى “مزرعة” كبيرة, حيث العلاقات قائمة على الاستئجار وتبادل المنفعة بمقابل, ومن ثم فبقدر حصولك على أموال أكثر تكون أكثر نجاحا,

وهكذا يتقلص نموذج الأسرة لصالح نموذج “الأجرة”, ويُقيم كل شيء بالمال, ويظن الإنسان أنه يمكنه الحصول على كل ما يحتاج بالمال! وهو ما حدث ويحدث حتى أدى إلى “تسليع” الإنسان, وهو ما أصبح متقبلا ومألوفا من الأكثرية الساحقة للبشر, والذين لا يفرقون بين “استئجار” جهد الإنسان وبين تسليعه نفسه!! وهو مما سنفرد له بإذن الله لا محالة مقالا قادما!

أعلم أن المجتمعات –الغربية- الحديثة, تقود الإنسان إلى الفردانية قودا, ومعها تزداد معاناة الإنسان رغما عن أنه توفر له ما لم يتوفر لأثرياء العصور الماضية, لأن كل هذا خال من المعنى .. خال من الروح …

لقد كانت مجتمعاتنا الشرقية ولله الحمد متمسكة بالنموذج الأسري الكبيرة, ولكنها أزيحت عنه بدرجة كبيرة, ولكني أرى أن تعديل المسار لا يزال ممكنا, وأن النموذج “المادي الانعزالي” لما يترسخ في مجتمعاتنا بالقدر الكافي, ومن ثم يمكن للمصلحين الجادين, بدرجة من الجهد, إعادة بسط نموذج الأسرة الكبيرة, حيث الأفعال نابعة من الاحتياج ومن الارتباط, حيث يُبتغى بها وجه الله.

إننا بحاجة إلى زيادة “كم” وكيف الأشياء التي تُقدم من القلب, بلا مقابل! ولا نعني بهذا فقط مجرد زيادة “العمل” التطوعي, وإنما زيادة جرعة ودرجة العلاقات الإنسانية وكذلك العلاقة الروحانية بين الإنسان وربه, والتي تعني بديهيا كذلك معاملات إنسانية, فبها يهنأ الإنسان ويسعد ويقر عينا! ويرتقي عن درجة الأجير, ويرفع أفعاله فلا تكون مبتذلة ممتهنة! وبهذا تزداد مجتمعاتنا تماسكا وترابطاً, فقوة المجتمعات كانت –ولا تزال- دوما هي في الروابط المعنوية والفكرية لأفرادها.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

حول إنكار العقل الغربي ل “النظام الكبير”!!!

في إحدى اللقاءات المطولة على اليوتيوب عن اللغة وفلسفتها، ذكر المتحدث رأي دو سوسير، القائل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.