التمرد .. (مقال فلسفي)

كُتب على الإنسان “معالجة أموره” وإلا فهو الجلوس في انتظار الموت.
مع تولد القدرة على الفعل عند الرضيع يجد توجيها ممن يرعاه, بأن هذا صواب وهذا خطأ, أو أن هذا جيد وهذا مستقبح .. الخ,
وبالتوازي مع –وربما سابقاً ل- تنامي القدرة لدى الطفل تتنامى التعليمات والإرشادات “الفوقية” التي تضع له مسارات محددة عليه التزامها, وأخرى عليها اجتنابها, من أجل أن يحقق النجاح والتوفيق في حياته, ولكي يصل إلى “السعادة” المنشودة, وحتى يحصل على القبول من مجتمعه والرضا ومن ثم يُنعت ب “الصلاح”, وما يترتب على ذلك من ميزات وفيرة.

ولأن الحصول على الأقوات في المجتمعات الإنسانية أصبح مشروطاً ب “المعالجة”, فلم يعد تقريباً ممكنا للإنسان أن يحصل على قوته بحجر أو قوس, ولأن كل الأنشطة الإنسانية قد تعقدت –ارجع إلى مقالي: من التقليد إلى التعقد- أصبح لزاما على الإنسان لكي يصل أن يسير على الدرب لفترة طويلة, لكي يتقن أصول وفروع “الفن/ العلم” الذي يتلقاه, وبقدر السير على الدرب تعلو مكانة المكتسب بين رفاق الدرب وبين السائرين في دروب أخرى –غالباً-, ويصبح قادراً على إضافة جديد إلى هذا الدرب, أو أن يكون “ناقلاً” بارزاً.

وحتى الآن وعلى حد علمي لم أجد أحداً قد اعترض على “قدَر” الاكتساب والتعلم, أنك لا بد أن تتعلم وتتدرب لتتقن, ولتكون “آية” بين الناس!
نعم, هناك الكثيرون قد تمردوا على مسار ما, ولكنهم تمردوا لعدم انسجام طبائع نفوسهم مع المحتوى المقدم لهم في هذه الدروب, فرفضوا السير في هذا الطريق, منتقلين إلى درب آخر, مثل أولئك الذين يرفضون تعلم العلوم, فيتركون المدرسة مثلا, ثم يتجهون إلى “تعلم” حرفة ما! بينما لا يوجد من تمرد على حتمية وجود “الدرب” من الأساس.

وعلى خلاف درب “الاكتساب” الكبير, والذي خضع له كل البشر, كان هناك تمرد على درب “التقنين”, إما برفض منظومة ما واتباع منظومة أخرى, وهذا لا يفعله إلا ندرة من البشر الدارسين الباحثين الطالبين, وإما بمخالفة بعض “فروع” هذا التقنين –تخفياً وليس علانية-, لعدم الاقتناع بصوابيتها, أو لمصادمتها لهوى الإنسان أو لمصلحته الشخصية, وإما برفض المنظومة من بابها, للظن بأن الإنسان “حر”, ومن ثم ف “عليه” ألا يخضع لغيره, وهكذا فمن المفترض ألا تكون هناك “سلطة” خارجية على الإنسان.
وهذا التوجه “الأناركي” كذلك لا يقول به إلا ندرة من البشر, وأكثر هذه النادرة مجبورة على الخضوع لقانون الدولة.


ورغما عن ميل الإنسان الفطري إلى عدم التقيد “الخيارية” فإن الإنسان يتبع قوانين الدولة المضروبة حتى لا يتعرض للعقاب, وذلك لأنه إما الاتباع وإما العقاب الفوري

بينما يختلف الحال مع القوانين غير المكتوبة للمجتمع “العادات والتقاليد والأعراف”, وذلك لأن العقاب فيها ذا طبيعة مختلفة, كما أنها ليست بنفس درجة إلزامية قانون الدولة, ناهيك عن “واهية” و”شكلانية” هذه الإلزامات المجتمعية, والذي ترتب عليه انهيارها وتساقط كثير منها عندما تمرد عليها أبناء المجتمع, بعد حركة الانفتاح الكبير على العالم. ومع التقدم العلمي اتسعت رقعة التمرد في الفعل الإنساني إلى مساحات لم تكن متخيلة أو متصورة سابقا, حيث أصبح يمكن للإنسان أن يغير “جنسه”!!

ويختلف الحال مع “الدين”, والذي يأمر وينهى هو الآخر, ولكنه عقابه –وثوابه- ليس “فوريا” وإنما “وعدياً”, فسلطة القانون لا تثيب وإنما تعاقب!

بينما الدين يعد بالثواب وبالعقاب المتأخرين, دنيويا أو أخرويا! ويعد كذلك ب “الصلاح”, ورغماً عن أن الدين كمنظومة هو أكثر انسجاما مع الإنسان وأقرب إليه –بما لا يقارن- من القانون, إلا أنه لغياب السلطة “القاهرة”
فإن كثيراً من البشر, يتمردون عليه, بعدم القيام ببعض –أو كثير- أوامره, ولا الارتداع عن نواهيه, أو بالاعتراض عليه من حيث المبدأ أصلاً, باعتبار أن الإنسان “كائن” عاقل, قادر على تسيير أموره بنفسه, ومن ثم فهو ليس بحاجة إلى “وصاية” خارجية, ومن ثم فهو “حر” يفعل ما يشاء, لكي يستطيع الاستمتاع بحياته, بعيداً عن القيود.


وربما كان للتراث اليوناني دورٌ رئيس في الجنوح إلى هذا “الموقف” المتطرف من الدين, حيث أساطير الآلهة المتصارعة الشهوانية قصيرة النظر!! الضارة للإنسان أحيانا, وكيف تمرد الإنسان على “أشباه الآلهة” هذه وانتصر عليها في العديد من المواطن,
ومن ثم فإن درب الحرية للإنسان هو التمرد على الآلهة! ورغما عن أن “صورة” الآلهة في العالم كله ليست كصورة آلهة بني يونان, ورغما عن أن المفترض في الإله الحكمة العالية والإحاطة وتمام الخيرية,

وإذا تحدثنا عن الإسلام تحديداً باعتباره الدين السائد المهيمن في ثقافتنا- ورغماً عن أن الدين لم يقدم نفسه كوصاية أبداً, وإنما قدم نفسه ك “هدى”, و “نور”, وأنه لرفع الخلاف والاختلاف الواقعين فعلا –رغما عن و- بسبب العقل الإنساني, رغما عن هذا كله فإن الإنسان يتمرد على الدين من حيث المبدأ, لأنه وجد درباً يقول أن التمرد في حد ذاته هو الحرية.

ورغما عن أن الإنسان “مفطور” على التمرد, فالطفل منذ صغره يرفض ما لا يوافق “عقله” المحدود, والمراهق يتمرد على الأوامر الأبوية وعلى سلطة المجتمع, إلا أن هناك من رأوا أن أسرع الطرق للوصول وللانسجام مع الذات هو الخضوع التام للإرادة العليمة, للذات الإلهية, وهم: الصوفية, فتمرد الصوفية على “فطرة” التمرد, وخاضوا حرباً ضروسا مع ذواتهم حتى أخضعوها لإرادتهم العاقلة المدركة المختارة,

وهكذا فإن الصوفية بخضوعهم التام هم الوجه المقابل للتمرد اليوناني. ويقيناً فليس الصوفي بالنموذج الجيد المشجع للإنسان, وإنما المفترض أن يكون المقابل للمتمرد هو “المنسجم” العامل.

إذا فالتمرد ما هو إلا نوع من الخضوع للذات, وطالما أنه فطري فهو ليس بمذموم من حيث المبدأ, وإنما هو ضروري ومحوري لإنشاء حياة “متدافعة”
وحتى لا نطيل التفصيل في تمرده وأصنافه وأشكاله, فهي كثيرة ومتنوعة, نسأل: عبر التاريخ الإنساني هل كان التمرد مثمراً, هل أفلح المتمردون في الوصول بمخالفتهم السبل المضروبة لهم مسبقاً؟!
فأقول: هناك نوعان من التمرد: تمرد القاصر وتمرد “البصير“, ودوما لم ولا يثمر تمرد القاصر شيئا, حتى وإن نجح, فهو تمرد إنسان قاصر الإبصار والإدراك لا تعجبه المسارات فيهدمها أو يتجاوزها, وهو تمرد مدمر له وربما لمن حوله.

بينما يختلف تمرد البصير في رؤيته لحدود المسارات, ولمواطن الخلل فيها وأين يُفترض أن يتم التغيير والتعديل, وهؤلاء المبصرون هم من غيروا مسار البشرية عبر تاريخها, حتى وإن لم يفعلوا بأنفسهم فقد وضعوا بذرة “الثورة” والتي أثمرت بعد وفاتهم.


في الختام أقول:
ما التمرد إلا شكل من أشكال الخضوع, فالدعوة للتمرد هي في الأعم الغالب دعوة للتمرد على “السلطة الخارجية”, والاستجابة التامة لبعض النداءات الداخلية, (وليست السلطة الخارجية في الغالب إلا تجسيدا لنداءات داخلية لبشر .. آخرين)
والتمرد كذلك دعوة لجعل المرفوض مقبولا ولرفض المقبول! ورغما عن أن “رجال الدين” والصوفية يدعون منذ قديم الزمان إلى “التمرد” على بعض الرغبات الداخلية بعدم الاستجابة لها, إلا أن هذا التمرد لا يُنظر إليه كتمرد ويعتبر دعوة للخضوع!!

وليس ثمة أي فارق بين الدعوتين, فكلاهما تمرد وخضوع, فالمتمرد الذي يدعو للقتال من أجل أفكاره ولجعل المجتمع يتقبلها! يغفل عن أنه يصبح في هذه الحالة “أمر خارجي” بالنسبة للمجتمع وليس صوتا داخليا, وتبعا لمنظوره هو فمن المفترض أن يلفظه المجتمع ويرفضه!! وهكذا يظل التمرد قرين الخضوع .. ويبقى الشكل الوحيد للتمرد هو .. الانتحار.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

حول إنكار العقل الغربي ل “النظام الكبير”!!!

في إحدى اللقاءات المطولة على اليوتيوب عن اللغة وفلسفتها، ذكر المتحدث رأي دو سوسير، القائل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.