من التقليد إلى التعقد

العنوان يقيناً غامض, فما علاقة التقليد بالتعقد؟!! وما المقصود أصلا بالاثنين؟! وأوضح للقارئ فأقول:
لا اختلاف في هذا المقال عن سابقيه, فهنا نواصل تناول “سنة” أو قانونا من القوانين الكلية السارية في الكون أو في الفعل الإنساني! واليوم نتناول النهاية “الطبيعية” لكل المسارات الإنسانية, وهي “التعقد”, وماذا يصير بعدها! ونبدأ بتوضيح القانون ثم نثني بذكر أمثلة عليه مؤولة له بالفعل الإنساني العام, فأقول:

كما بينت في مقال “فطرة المحاكاة”, فإن جل الفعل الإنساني هو محاكاة للطبيعة حوله, وهنا نزيد الأمر تفصيلاً فأقول: يبدأ الفعل محاكاة .. بسيطاً,
ومع مرور الزمن يكتسب إضافات وإضافات حتى يتعقد ويثقل, وهنا إما أن يكون هذا التعقد هو النهاية فيموت وينشأ مكانه فعل آخر مشابه أو مختلف, أو أن الفعل عند التعقد “يتفرع”, وبالتفرع يقل الحجم والثقل, ويكتسب سمات جديدة وحيوية, يستطيع معها الاستمرار في العطاء,
ومع الوقت يكتسب سمات جديدة ويتعقد, إما يصل بعدها ل “عدم الصلاحية” أو يتفرع أو يُعالج معالجة جذرية فيُؤخذ منه ويضاف إليه فيستمر, وهكذا في حركة مستمرة.

ونبدأ أمثلتنا بالعلم المشهور –إذا أن هناك من العلم الكثير مثل العلم الصيني والهندي والإفريقي, ولكنه لمّا يلق عناية كافية!!- حيث بدأ العلمُ “فلسفة”, وبدأ بأفكار بسيطة,
وبعد قرون تعقدت الفلسفة إذ اشتملت كل علم ممكن .. والكثير الكثير من التصورات, ولم تعد الفلسفة صالحة لأن تكون هي “آلية” تقديم وتقدم العلوم, ومن ثم بدأت العلوم تنفصل عن الفلسفة, بداية من الرياضيات ومرورا بالفيزياء وغيرها من العلوم وانتهاء بالإنسانيات!
وهكذا استطاعت الفلسفة أن تستمر, مكتفية باللقب الشهير “أم العلوم”, وانحصرت في نطاق ضيق, وأنا أزعم أن كثيراً من مجالات الفلسفة الحالية ستُنزع منها في المستقبلين القريب والبعيد, وستظل تتراجع وتنكمش ولكن لن تموت أبداً!
والعلوم العلمية نفسها ينطبق عليها نفس الحال, إذ بدأت في التفرع والتفرع, حيث ظهرت العديد من العلوم الفرعية والتي يتخصص فيها العديد والعديد من العلماء, ولا يزال العلم يتفرع ويتفرع! ولا يعني هذا أن العلم غير قابل للموت, ففي لحظة معينة سيتلقى هذا “النموذج” ضربة قاسمة, يقتنع بعدها العلماء بأن تأويلات الإشكاليات الموجودة فيه لم تعد مقنعة وأن عليهم التحول إلى “باراديم” جديد.

وما لاحظته أنه تقريبا لا يموت فكر أو عمل, وإنما يتم تحويره وإعادة تشكيله وتقديمه بشكل جديد حتى يتناسب مع المستجدات الطارئة والتغيرات الحادثة, فإذا نظرنا حتى لطريقة تفكيرنا الطفولية, وحكمنا على الأمور, والتي يتنازل عنها الإنسان بعد فترة, لاكتسابها العديد من السمات التي أدت إلى ذوبانها أو اختفاءها!

حتى هذه الطريقة لاحظت أنها لم تختفي, فجل المزاح البشري قائم على التصرف بصبيانية, ومحاكاة حركات وردود أفعال وتصرفات الأطفال, فالأسلوب القديم بعد أن كان هو “الحاكم”, أصبح يُستخدم للمزاح وكذلك للتعامل مع الأطفال, ظنا أن هذا أيسر في إيصال الأفكار المرغوبة إليهم.

فإذا انتقلنا إلى الفنون, وجدنا أن القانون نفسه يصدق عليها, فالغناء –والموسيقى- بدأ بتقليد الأصوات الجميلة في الطبيعة, وكان هذا التقليد يتم بشكل فردي “طبيعي” حيث حسن الصوت يغني, وحاول بعضهم صناعة آلات تقدم هذه الأصوات بشكل أجود,

وكان الناس في المناسبات السعيدة يغنون ويصفقون ويعزف بعضهم ألحانا بسيطة, ليضفوا أجواءً إضافية من البهجة, ثم بدأ أفراد في احتراف هذه المهنة وتحولت إلى “صناعة”, حيث أصبح هناك أفراد محددون يمتهنون هذه “المهارة”, وبالطبع أصبحوا يتدربون عليها, ومن ثم طوروا في طريقة الأداء واخترعوا نغمات جديدة وطرقاً جديدة للغناء,
ونفس الأمر يقال مع الشعر, حيث تم استخدام كل المعاني الممكنة للعشق والغرام والحماسة وما شابه من “المشاعر” الراقية,
وبعد قرون من التشعب والإضافات أصبح المتلقي يشعر بالتكرار وأن لا جديد يُقدم, ومن ثم تم الاتجاه إلى الحياة العادية والتغني بمعاني مبتذلة ورغبات شهوانية

وكذلك ظهرت أشكال عجيبة من الموسيقى الصاخبة وغير المتناسقة أحيانا, وتم تصنيفها كفنون راقية, وهو ما حدث في نهايات القرن الماضي, وبدايات القرن الحالي, وما قيل بشأن الموسيقى والغناء ينطبق على الرسم والنحت وما شابه من الفنون, حيث بدأت بسيطة تقليداً ثم تعقدت وتشعبت, حتى وصلنا إلى التجريدية والتفكيكية والعبثية, وأشكال ومسميات لا يفهم “الإنسان غير المتخصص” ما المقصود منها, بل وقد تثير قرفه واشمئزازه!! بل وكيف يتحور فن مع توفر إمكانيات تقنية, فانظر كيف تحورت القصة من الحكي في الليالي حول النار إلى روايات ثم أعمال تليفزيونية وسنيمائية, يُبذل الجهد الكبير والأموال الطائلة من أجل تقديم نفس الفكرة, التي كانت الكلمة –مسموعة أو مقروءة- تقدمها مسبقا!

ونلاحظ أن هذه التفرعات في الفنون لم تحدث إلا بعد أن توفر “الطعام” للبشرية, ولم يعد هو الشغل الأكبر لعامة الناس, ومن ثم بدأ الاهتمام بالذات والملذات والرغبات, ومن ثم أمكن لأرباب الفنون أن يخطو هذه الخطوة!

وبالمناسبة فإن القانون المذكور ينطبق على الطعام نفسه, ففي بدأ البشرية كان الإنسان يأكل الطعام كما هو ثم لاحظ أن النار تجعله ألذ وأسهل, فكانت بداية معالجة الطعام بالشي ثم السلق ثم التحمير ثم الخ, ثم كانت خطوة خلط أكثر من صنف, وإضافة مشهيات مثل الملح والتوابل, ثم اختراع الحلويات, ثم … ثم!
والآن مع توفر الطعام وصل الناس إلى حالة “انسداد”, وأصبح اختراع صنف جديد من الطعام من الصعوبة بمكان, وغالبا ما يكون غير صحي!

ورغما عن أنه من الممكن دوما استعارة “وصفات” من الثقافات المجاورة تجتمع فيها اللذة والصحية! ولكنها المسارات الموضوعة, ودرجة التعقيد التي وصل إليها المجتمع والتي لا يرضى معها الأفراد بدرجة أقل, لأنها سيعتبرها قليلة الفنية أو “الحرفية”, ومن ثم لن تكون مرضية له, ومن ثم يبحث أفراده عن درجة أعلى في الكم أو الكيف!!

وهذا يفسر مثلا الإقبال على نوع من الطعام لا يختلف عن سابقه سوى في كبر حجم الشطيرة, والتي يتخيل معها المرء أنه سيحصل على لذة أكبر!! وبالمناسبة نفس ما قيل بخصوص الطعام يقال بخصوص الأفكار العلمية والفلسفية والاقتصادية, حيث يفضل الأتباع “التأويل” على الاقتباس من المناهج المغايرة. لأن الإنسان بطبعه لا يحب الإقرار بالفشل, ناهيك عن احتمالية عدم تقبل “السوق” لهذه الأفكار الجديدة.

ويمكننا تطبيق القانون بكل بساطة على النشاط التجاري, إذ أنه “أوهى” الأبنية في كل ما سبق, فإذا نظرنا في الحركة التجارية, وجدنا أنه يظهر “محل” أو شركة ما, ليلبي احتياجا من الاحتياجات الإنسانية الأصيلة أو غير الأصيلة, وبعدها تظهر العديد من المتاجر التي تقدم نفس الخدمة, وأكثر المتاجر تغلق بعد فترة ما طالت أو قصرت, ونادرا ما يستمر متجر لسنوات عديدة, والقلة التي تنجح في الاستمرار نادرا ما تنجح في النماء, في أن تزيد حجمها زيادة تتناسب مع ما مر عليها من السنوات, للاحتياج إلى ظروف معينة, ذاتية وغيرية, وكثير من الصدفية, التي تمكنها من التضخم والتعملق!! والذي يعطيها فرصة للاستمرار مع الشكل الجديد المتحور, ولكنها لا محالة تتعقد وتسقط!! ونفس ما يقال على الكيانات التجارية ينطبق على المجتمعات,

إذا أن المجتمعات مع تقدمها تزداد تعقدا, باهتمامها بكل كبيرة وصغيرة, وعنصر القوة هذا يصبح عنصر الضعف الأكبر, الذي سيؤدي لا محالة بعد فترة قصرت أو قصرت إلى انهياره!!

وهكذا ومن خلال نظرنا في الفعل الإنساني نجد أن قانون “التقليد البسيط حتى التعقد” مسيطر ومهيمن, وأنا كل الأفعال تتجه إلى الموت أو الاستبدال,

وهكذا حتى في الفعل الإنساني البسيط, فكم من “عادات غذائية” كانت مهيمنة, ثم اختفت هذه الأطعمة واستبدلت بغيرها, وكذلك أنظمة حكم وملابس, وكلها يسري عليها نفس القانون, إما أن تموت, ثم يتم إحياءها كما هي,

وهو ما نراه في الحركات “السلفية” في كل الحضارات, حيث المطالبة بالعودة إلى الجذور والأصول, ونفض ما تراكم عليها من “تراب” ليس منها!! وكذلك في بعض الخطوط الفنية, حيث يتم إحياء بعض التوجهات القديمة وتسييرها بالتوازي مع الحديثة, أو يتم الاستعارة من الخارج, أو يُفرض الفكر “الأجنبي” –ولن أقول: الخارجي!!- فرضا, فيُستبدل هذا بذاك, وهنا يحدث “تطعيم أو تلقيح” يتيح للقديم المثقل أن يتحور أو يتفرع .. وهكذا تُكتب له الحياة مجددا .. بوجه جديد بسيط .. أخف حملا.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

توحيد الروايات

بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله ربنا وخالقنا ومالك أمرنا، بيده الخلق والتدبير والتصريف، يهدي من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.