الجسد

“الجسد”

رغما عن أن أحداً منا لم يختر لونه ولا جسده, إلا أن “الجسد” كان ولا يزال –وسيظل- محور الاهتمام والانشغال الأكبر للإنسان, وبالرغم من هذه الأهمية, فإن الجسد ك “وحدة كلية” لم يحظ باهتمام كبير في منظومتنا الفكرية العربية, -وإن التُفت إلى أجزاءه!-

بينما كان الاعتناء في منظومة الفكر الشرقي –الأدنى والأقصى- بالروح! وهذا الاختلاف الصارخ في الأهمية هو مثال جيد على التفاوت بين موازين المنظومة الفكرية لمجتمع ما, وبين مناظير عامة أفراده!

فبينما فصل أرباب الفكر بين ال “أنا” والجسد, كان الجسد عند الأفراد هو ممثل ال “أنا” وال “نحن”, فتبعا للسمات الجسمانية توحد البشر وتمايزوا! وبغض النظر عن التصنيف العلمي للأجناس, فقبل أن يُصنفوا علمياً كانوا قد اتحدوا فعلياً بسبب التشابه الجسدي, وأغاروا على غيرهم –أو أغير عليهم من غيرهم-, حيث اعتبروهم جنسا أقل “إنسانية” منهم, لاختلاف لون البشرة!! ولا يزال “البشر” حتى اليوم يسخرون من “الأقوام” الأخرى مختلفي الأجساد!

وكما أن الطفل طويل القامة قوي البدن, كانت هذه المواصفات الجسمانية تدفعه للاعتداء على زملائه, فكذلك الحال كان مع الأجناس التي رأت نفسها أطول من غيرها وأقوى فاعتدوا عليهم, وعُرف هؤلاء الطوال في التاريخ ب “العماليق”!!

والحديث عن الجسد يتطلب صفحات طوال, ولو شئنا الدقة فهو يحتاج إلى إفراد كتاب كامل له, ولكن سأحاول أن أقوم برحلة خاطفة مع الجسد, ذلك “الحامل” المحمول! فأقول:

يبدأ “تعرف” الإنسان على جسده وهو طفل صغير باعتباره “كينونة” نامية واجبة النمو, يحرص “الكبار” على إنمائها!
والمفترض أن هذا الإنماء شيء إيجابي, عليه أن يحرص عليه! ومع هذا الإلحاح حول النمو الجسدي يبدأ الطفل في الانتباه لجسده,
فهل هو أقصر أم أطول أم أتخن أم أنحف, وهل هو أقوى أم أضعف من أقرانه؟ وهل بشرته أدكن أم أفتح وهل شعره أنعم أم أخشن؟!
ولأنه يرى نفسه أصغر من “الكبار” ومختلفاً عنهم, فيسعى هو كذلك لأن ينمو ويكبر! وفي هذه المرحلة لا يكون ثمة فارق لدى الطفل بين “أناته” وجسده, فهما لديه وحدة واحدة, وشاغله الأكبر هو “اللهو”, والطعام, تلك اللذة الرئيسة في الحياة وكذلك اكتساب المزيد والمزيد من المعارف والقدرات.

ومع الوقت يدخل الطفل مرحلة البلوغ والتغيرات الجسمانية, فيستجد لدى الذكر اللحية والشارب وخشونة الصوت .. الخ, ولدى الفتاة بروز الثديين والدورة الشهرية .. الخ,
ورغما عن أنه لا دور لهم في هذا التغير, إلا أننا نلاحظ افتخار و “انتشاء” الإنسان حديث البلوغ بجسده عامة وبمواضع تميزه الجنسي خاصة! فالشاب يفتخر بشعر لحيته وشاربه, وبنسبه الجسدية الدالة على القوة مثل عرض المنكبين, ضخامة الذراعين, وكذلك بحجم عضوه الذكري, والذي يعتبره مقياسا للفحولة!!


وفي الناحية الأخرى نجد أن الفتاة تفتخر ب “طراوة” جسدها, بثدييها, بمؤخرتها, بتناسق جسدها, بملامح وجهها! والفتاة أكثر انبهاراً وإعجابا بجسدها –أكثر من الشاب-, حتى أنها قد تقف –شبه- عارية أمام المرآة لتشاهد هذا الجسد “الجديد”! وفي هذه المرحلة يتم اكتشاف الملذات “الذاتية”, فلم تعد الملذات فقط أكل ولعب, فالجسد نفسه يمكن أن يكون مصدراً لإمتاع .. نفسه!

ولا يقتصر الانبهار بالجسد على تفاخر الشباب فيما بينهم ب “مقاييسهم الجسمانية”, وإنما يتعداه إلى حرص الشباب والفتيات على عرض “أجسادهم” للآخرين, وإن اختلفت الدرجة, وعلى جذب الأنظار إليهم!
وفي الثقافات المتحررة يقوم الشباب بعرض أجسامهم على الشواطئ بشكل صريح
 في الثقافات المحافظة يقوم الشباب بعرض الأجساد من تحت الملابس! فهم يتميزون باستقامة أجسادهم وسلامتها, فلما تحني ظهورهم وأكتافهم الأيام ولما ترخي بطونهم السنون أو الأطفال! وربما هذا مسلك تعويضي لأن الشاب والفتاة لا يملكون من أمرهم شيئا, وهم لا يزالون في وصاية أهليهم! فهم وإن لم يمتلكوا مالاً, فهم يمتلكون “جسدا” قويا! وبهذا “الجسد” يقوم الذكور والإناث بجذب الجنس الآخر ليتخذ منه شريكاً للحياة فيما بعد.

ومع التقدم في العمر تحدث درجة من الانفصال بين ال “أنا” والجسد عند الرجل, فيصبح يرى ذاته فيما يعمل, يتقن, يعرف, ولهذا يقل اهتمامه بجسده, بينما يختلف الوضع عند “المرأة”, حيث يزداد الالتحام بين الأنا والجسد, فهي الآن تدخل مرحلة النضج, مرحلة اكتمال الأنوثة, ومن ثم يزداد حرصها على تجميله وتزيينه!
ولا يعني هذا أن المرأة لا يحدث لديها انفصال بين ال “أنا” والجسد, ولكنه يحدث من ناحية ويحدث التحام من نواحٍ عديدة.
وعندما يتقدم العمر بالمرأة الجميلة ذات الجسد المتناسق, فإنها تتحسر على ذلك “الجسد” الذي سيذبل بدون أن يأخذ حقه في “الإنجاب” والإمتاع! ومع ظهور “الكاميرا” حرص كلا من الرجل والمرأة على التقاط الصور, ولكن حرص الفتاة على التقاط الصور أكبر, فتحرص على التقاط الصور لجسدها بأوضاع مختلفة –بينما يكفي الرجل أن يظهر وجهه في الصورة-!

ولهذا الحرص على رؤية ومشاهدة الجسد, قام أرباب المال ببيع الجسد! ليس كبيع الإنسان عبداً كما كان يحدث في الماضي, أو في الدعارة كما يحدث دوما,
وإنما قاموا ببيع “صور” الجسد, فالممثلات والعارضات حتى الآن يقمن بتصوير أجسادهن وتباع هذه الصور في المجلات والجرائد, وكذلك “الموديلز” الرجال!! وتبعاً لهذا “الطلب” ظهرت “أصناف” من البشر وظيفتهم الحياتية أن يكونوا “جسدا” مثالياً! يتم عرضه للجمهور كجسد مثالي عليهم الاقتداء به, أو مجرد الاستمتاع بمشاهدته, وجسد المرأة يجذب المرأة والرجل, وجسد الرجل –الذكوري وليس الممتلئ بالعضلات!!- يجذب المرأة!


ومع استمرار العمر في المسير يصل الإنسان إلى المرحلة الكريهة: مرحلة الشيخوخة, حيث الضعف الجسدي وتتابع الأمراض, وكلا الجنسين يحاول تأخير أو مداراة آثار الشيخوخة, سواء بالتدخل الجراحي, أو بالتجميل مثل صبغ الشعر وارتداء ملابس “شبابية”, أو بمواد طبيعية أو صناعية لتقوية الجسد, حتى يؤدي “أدواره” بدرجة قريبة من التي كان يؤدي بها مسبقا!

وإن كان هناك الكثير ممن لا تسبب لهم الشيخوخة أي انزعاج ويعتبرونها مرحلة “طبيعية” عليهم عيشها كما هي. وعندما يصل الإنسان إلى هذه المرحلة العمرية التي تخفت معها المطالب الجسدية وكذلك الضرورة للسعي لطلب الرزق غالباً ما يبدأ الإنسان في الالتفات لذاته واكتشاف أنه شيء آخر غير ذلك الجسد وغير هذه الاحتياجات الحيوانية المباشرة .. ولكن للأسف غالباً ما يكون الاكتشاف متأخرا!


وبشكل عام فإن الاعتناء بالجسد فطرة إنسانية ولكنه يزداد تبعاً للحالة الاقتصادية و “الحضارية”, فنجده قديما بارزاً في الحضارات التي حققت قدرا من الرخاء لأبنائها,
وقديما وحديثا في الطبقات الاجتماعية الأعلى, بينما يقل الاهتمام بالجسد عند الفقراء وعند الأمم التي تواجه ظروفاً حياتية قاسية إلى الحد الأدنى, لاستنزاف الجهد في تحدي “البقاء” على قيد الحياة وتوفير الاحتياجات الأساسية! وإن كانت المرأة تحرص على التزين تبعا للإمكانيات المتاحة, فمهما كانت الظروف ستطيل رقبتها –كما تفعل بعض القبائل الإفريقية- وستستطيع أن تجعل قدمها أصغر –تبعا لمعايير الجمال الصينية- .. الخ.

ومع القفزة الاقتصادية والحضارية التي حققتها البشرية في القرن الماضي, زاد الانشغال بالجسد في الخمسين عاماً الماضية, فظهرت العديد من الرياضات المتخصصة بتشكيله –وليس لتحسين الصحة العامة- مثل رياضة: بناء الأجسام, وتشكيل الأجسام, وتدريبات التنحيف, ومع توفر الغذاء أصبحت السمنة مشكلة كبرة (بعدما كانت هدفاً في العصور الماضية), ومن ثم زاد الاهتمام جدا جدا بالحميات الغذائية, وظهرت كذلك عمليات التجميل بأنواعها المختلفة, سواء تلك المتعلقة بالوجه أو بالجسد!


ومع ظهور هذه العمليات لم يعد الجسد “قدرا”, فقديما كان من يولد محني الظهر سيظل طيلة عمره بهذا الوضع, وما يترتب عليه من سخرية وإهانة! ومن كانت أسنانها معوجة غير متناسقة أو ذات فك بارز ستظل إلى نهاية حياتها هكذا, وما يترتب عليه من فرص ضعيفة للزواج, ومن كان ذا أنف كبير سيظل موضع سخرية

بينما يمكن للإنسان الآن بواسطة عمليات التجميل أن يغير أو يعدل أجزاء في الجسم, وأن يكبرها أو يصغرها. وهذا التعديل والتبديل لم يعد مقتصرا على التجميل, فسأصبح من الممكن الآن أن يستبدل الإنسان عضوا داخليا تالفاً من أعضاء جسمه بعضو آخر من متبرع! ورغما عن هذا سيظل الجسد –ككل- جزءً من أقدارنا! كقالب إن أمكن أن نغير كله أو جله –في المستقبل- لم نعد لنعرف أنفسنا, وسنجد أننا نقول: “أنا مش أنا”!!

وبعد هذا التطواف مع الجسد ورحلته الزمنية, ننتقل لنبصر كيف نرى كمسلمين الجسد:
على العكس من اليونانيين الذين انبهروا بالجسد وحرصوا على إبرازه في تعاملاتهم الحياتية, حيث أبرزت ملابسهم التي كانوا يرتدونها في الحياة العامة رجالا ونساء تقاسيم أجسادهم, وكذلك قاموا بنحته كتماثيل وإبراز تفاصيل الجسد الصغيرة والكبيرة حتى الأعضاء التناسلية!! على العكس من منظومتهم “المادية”

دعا الإسلام ل “ستر” الجسد, وذلك لأن الجسد حاضر أصلاً بطبيعته وحضوره طاغ, ومن ثم فينبغي أن ينزل منزله ولا يُبرز, ولا يُعطى من الاهتمام أكثر مما يستحق! ولم ير الإسلام –مخالفاً لكثير من المذاهب أو الأديان- أن الجسد “عقبة” للوصول إلى الروح وإلى الطهر, ومن ثم لم يدع إلى إهمال متطلبات الجسد ولا إلى تجاوز احتياجاته, وإنما دعا إلى الموازنة بين الاحتياجات المادية والروحية, ومن ثم رفض معاناة “الرهبنة”! وكذلك رفض قرن “الجسد” بالخطيئة!!


ويمكنني القول أنه لم يُهتم بالجسد في الفقه الإسلامي, سوى في أحكام الطهارة, والعجيب أنه –نُسب إليه أنه- أخذ موقفا عدائيا من بعض أشكال زينة المرأة واعتبرها جالبة ل “اللعن”!! بينما كانت الاحتياجات الجسدية غائبة في الغالب, فمسألة مثل الاستمناء كان المقياس فيها النص والتصور الأخلاقي, بينما الاحتياجات الجسدية منسية, وعندما التفت إليها في أحكام الطلاق مثل تلك المتعلقة بالمجبوب أو العنين أو الغائب عنها زوجها ولا يُعلم حياته من موته حُملت المرأة الكثير والكثير!


لقد دعت الأديان والمذاهب الأخلاقية إلى “تجاوز” الجسد, والنظر إليه باعتباره “غلاف”, والأغلفة أو الأوعية تختلف بينما يتفق “المحتوى”! فلا فضل لأبيض على أحمر ولا لأحمر على أسود –إلا بالتقوى

, والإنسان المشوه جسديا هو ليس إنسانا “ناقص” الإنسانية! كل ما هنالك أن غلافه أصابه الخلل, وعلينا أن نتجاوز هذا الغلاف وننظر إلى حقيقته! وكلنا يردد الجملة الشهيرة: “الجمال جمال الروح”! وبالرغم من التركيز الكبير على هذه المسألة إلا أن أكثرنا لم يفلح –ولا يريد- في تجاوز الجسد, ويتعامل مع الناس ويحكم عليهم تبعا لأجسامهم! بدلا من أن ينظر إلى أعمالهم وقلوبهم!
وفي الختام:
كما رأينا فإن الجسد كان ولا يزال فتنة, وبعضنا ينظر إلى جسد المرأة باعتباره “فتنة” طاغية, ولكن هل يخطر ببال أحدنا أن ينظر إلى جسده “كله” باعتباره “نعمة”, ومن ثم عليه أن يشكر ربه على هذه النعمة, أن يشكر ربه على أنه جعله لحما ودما .. وأعطاه الفرصة .. ليحيا؟!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

حول إنكار العقل الغربي ل “النظام الكبير”!!!

في إحدى اللقاءات المطولة على اليوتيوب عن اللغة وفلسفتها، ذكر المتحدث رأي دو سوسير، القائل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.