بين الردة القومية والردة الدينية

يُعتبر مصطلح “الرِدة” مصطلحاً دينيا, ويمكننا التحديد فنقول أنه مصطلح إسلامي ارتبط بالحد “حد الردة”, فمن المفترض أن من يتحول عن الإسلام يُعرض عليه الرجوع في الإسلام أو يقام عليه الحد فيُقتل!! ورغماً عن عدم ثبوت هذا الحد, -ومخالفته للنصوص القرآنية- ورغما عن وجوده في أديان أخرى, إلا أن “حد الردة” ارتبط بالإسلام .. وبالمقدس!

والملاحظ في هذه العقوبة أنها تختلف عن أي عقوبة أخرى, لأنها تتعلق ب “فكر” وليس ب “جرم”! فعقوبة السرقة أو “الغش” أو “القتل” –بغض النظر عن اختلافها بين المجتمعات- هي عقوبة متعلقة بفعل ترتب عليه أذى وقع على فرد –أو أفراد- من هذا المجتمع, بينما هنا يقتصر الأمر على “عدم الاقتناع” بمكون/ ربط رئيس من مكونات/ روابط المجتمع, وهو: الدين! فكيف نحاسب الإنسان على عدم اقتناعه بفكرة ما؟!

إن أي “نظام حاكم” في مجتمعٍ ما لن يتتبع الناس لينظر فيما يعتقدون –يُستثنى من هذا: الصين!!- ومن ثم فإن الإشكال هو عندما يُعلن الشخص على الملأ أنه لم يعد مقتنعاً بهذه الفكرة الرئيسة

ومن ثم توجيه النقد لها برميها بالضلال –هي وأصحابها-, والدعوة إلى “فكرة/ عقيدة” جديدة! وهنا يكون العقاب المجتمعي, وهو ما صدر ابتداءً من أقوام الرسل الذين لم يؤمنوا بدعوة رسلهم, حيث أخرجوهم أو هددوهم بالإخراج أو القتل:

“فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل : 56]” “قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ [الأعراف : 88]“,
فالأقوام السابقة لم يكن لديهم تقبلٌ للخلاف, فإما تكون “منا” أو لا تكون: “إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً [الكهف : 20]”

وعندما تغيرت الأحوال وأصبحت الدولة هي “دولة المؤمنين”, قدم الفقهاء أحكاماً أقسى, ف “الكفار” كانوا يُخرجون من “يرتد” عن ملتهم, بينما لم يكن الإخراج “النفي” عقوبة عند الفقهاء, وإنما كان فقط القتل بعد “الاستتابة”!! ولا إشكال لديهم في أن يوجدوا منافقين يظهرون خلاف ما يبطنون!

وفي العصر الحديث ظهرت بعض الأصوات التي استقبحت قتل المرتد, وقالوا أنه لا يُقتل طالما أن ردته في نفسه! ولذلك فمن يرتد فعليه أن يبقيها في نفس ولا يجاهر بردته, ولا يدعو إلى دينه الجديد ولا ينقد الإسلام! ولقد خاض علماء الإسلام معركة جدلية واسعة النطاق جغرافيا وزمانيا مع البلدان المفتوحة –وخاصة بلاد فارس والشام- حتى اقتنع أتباع هذه البلاد بالحجج والبراهين, فدخلوا في الإسلام, وما يهمنا في هذه المعركة الجدلية طويلة الأمد, أن أتباع الديانات الأخرى كانوا ينقدون الإسلام لعشرات السنين ويقولون بتناقضه .. الخ,

واكتفى علماء المسلمين بالرد عليهم ولم يقوموا بحبسهم أو إخراجهم .. من بلادهم!! وإذا كنا نعطي أنفسنا الحق في أن ندعوا الناس للدخول في ديننا, فلماذا لا يكون لديهم نفس الحق؟!! وحاليا الجدالات الدينية لا تزال موجودة وقائمة في “منتديات” مقارنات الأديان, ومن يرغب في الجدال يمكنه الذهاب إلى هناك ويدلي بدلوه .. بفكره ويرد عليه بالحجة فقط!!

ولا يختلف الحال مع “عباد” الدولة القومية الحديثة, والتي ظهرت في بدايات القرن العشرين, وتم تقديم “الدولة/ الوطن” كبديل للإله, وأعطي للوطن نفس القداسة ونفس الصلاحيات, حيث أصبح الوطن –وليس الدين كما كان منذ قديم الزمان وفي كل المجتمعات تقريبا, فمثلا مملكة القبط القديمة, كان الفرعون ابن الإله, والمدن تُسمى بأسماء دينية وما مدينة “باب الله/ بابل” بمثال شاذ ولا استثنائي!-,

الشاهد أصبح “الوطن” هو الرباط الذي يربط أفراده, وهو الذي ينبغي أن يضحي الإنسان بنفسه له, وأُخذت مفردات الخطاب الديني وأُسقطت على الوطن, فالمرء “يستشهد” في سبيل الوطن, وكلنا “إخوة” في الوطن, وعلى الفرد أن يؤمن بالوطن! وأن يشعر بالانتماء إليه, وأن يكون انتمائه له وولاءه له مقدم على كل انتماء وولاء, وعليه أن يعادي أعداء الوطن, وإن اشتركوا في الجنس واللون واللسان والدين … الخ.

وبغض النظر عن أن الدولة القومية ما هي إلا تطوير لمنظومة “القبيلة” والانتماء القبلي ولكن بشكل جغرافي ارتبط بالأرض والتاريخ بدلاً من “الجد والتاريخ”, بغض النظر عن هذا فإن “عبيد” الدولة القومية قدموها ك “ذات مقدسة” “متجسدة” في الحكومة وفي التاريخ!

ولا تزال الحدود بين “الدولة” والحكومة عند العرب أو عند المصريين تحديداً متماهية! فالدولة تتجسد في الحكومة –الثابتة-, لذلك عندما تُنتقد الحكومة أو يُطالب بتغييرها يأتي الاعتراض: “مش هم دول اللي بيدوك مرتبك”؟! والحق أننا جميعا نعمل عند الدولة المصرية وليس “الحكومة”, فأنا موظف لدى الدولة, كما أن الحكومة من أعلى رأس إلى أقلها هم كذلك موظفون لدى الدولة, والفارق فقط هو في الدرجة الوظيفية –ومقدار السلطة المحاز!!

, بينما تفرق الشعوب المتقدمة بين الدولة والحكومة, وهذا ما نلحظ جلياً مثلاً في اللغة الألمانية, فهذه وظيفة أو مدرسة “دولية” (شتاتليش) وليست حكومية, -نسبة إلى الدولة وليس العالمية (انترناشيونال), وهناك القطاع الخاص والقطاع الدولي/ العام, وذلك لأن الحكومات تتغير بينما “الدولة” ككيان ثابتة!

لذا فإن أي نقد “قوي” لهذه الذات الحكومية المقدسة يعتبر “ردة”, وهم لا يستخدمون مصطلح “ردة” وإنما يستخدمون مصطلحات حديثة: “خيانة/ خيانة عظمى”, “عمالة” “تبعية” .. الخ, ويعلنون بكل صراحة عدم تقبلهم للنقد: “من ينتقد الحكومة/ مصر فليس له مكان فيها” “مش عجباك اخرج منها”!, ولا يقتصر الأمر على القول وإنما يتعداه إلى السجن! (والذي هو شكلٌ آخر من أشكال الإخراج!!) إذا فلو ارتددت عن الدين فاكتم في نفسك ولا تتكلم, وإذا رأيت أخطاءً جسيمة من الحكومة فاكتم في نفسك ولا تتكلم وإلا فالعقاب في انتظارك في كلتا الحالتين!!

إن الرافضين للنقد يؤمنون بهشاشة منظوماتهم! ومن ثم فلا يتحرجون من إسكات الناس حتى لا تتهاوى تلك المنظومات الدينية أو السياسية!! رغما عن أنهم يزعمون أن هذه المنظومات هي ل “مصلحة” الإنسان وهدايته!! ورغما عن أن الله جادل الكافرين, وذكر أقوالهم في “وحيه”, ولم يقل لهم: كيف تعترضون, وإنما ذكر الأقوال وفندها بالبراهين القاطعة!! فلماذا نعطي لأقوالنا ول “أوطاننا” من القداسة ما ليس لها؟!

هل كان “العقد الاجتماعي” المتخيل بين الأفراد والدولة, أن الدولة تطعمنا وتسقينا وتعلمنا مقابل أن نسكت ونصمت؟!! أم أن نحاول أن نفكر لها ونطورها ونعالج عيوبها لتصير أقوى وأجمل؟!

إن المجتمعات الصحية هي تلك المجتمعات التي تتقبل وجود “درجة” ودرجات من الاختلاف وتتقبل وجود “الآخر” بين أفرادها, فهناك نعم دين لأكثرية الشعب, ولكن هناك “أقليات” لها أديان أخرى, وكذلك هناك منظومة فكرية سياسية حاكمة, ومن حق الآخرين أن يكونوا أحزابا سياسية تؤمن بأي مناظير أخرى

ومن حق الجميع الحديث عن أديانهم وبرامجهم السياسية والدعوة إليها ونقد الأديان والأحزاب الأخرى, بشرط عدم الإساءة إلى الآخرين ولا الدعوة إلى إيذائهم. وفي هذا المجتمع المفتوح سيعمل الجميع على تطوير “أفكاره” ومبادئه, وتحسين أداءه من أجل جذب المزيد من الأتباع و “المريدين” له!

وستكون الخطوة الأولى لمثل هذا التحول هو بنزع القداسة عن الأفراد, فأنت أيها المنتمي لمذهب ديني ما, لست المتحدث الرسمي باسم “الإسلام”, وإنما تقدم رأيك وفهمك للدين! وكذلك أيها الوطني لست أنت مصر, وإنما أنت ابن من أبناءها لديك فكر لإصلاحها, وأتتك الفرصة لتطبيقه! وربما يكون هناك بين “المعارضين” من هو أجدر منك, أو من لديه من الفكر ما يصلحها أفضل!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نهاية التاريخ … الإسلامي!

قبل ما يزيد عن عقدين من الزمان وتأثراً بانتهاء الحرب الباردة بين روسيا وأمريكا وبعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.