احتقار المجرمين!

“هذا مجرم يستحق الإعدام شنقأً”!
“لماذا لا يحرقون أمثال هؤلاء فيريحونا منهم”

ما أسهل إطلاق الأحكام وتعميمها!
ما أسهل أن يحكم الإنسان على فعل فلان أو جماعة ما أو أمة ما أنه خاطئ تماماً, بل وكارثي! وربما أحمق!
وما أسهل ما يسخر الإنسان العربي من الآخرين ومن تصرفاتهم وأن يتندر عليهم! رغما عن أنه قد يكون لا يعرف كيف تدار الأمور, أو ربما قد أتى سابقا بما هو أسوء منهم وأحمق !

وما أسهل إصدار الإنسان المصري أحكاماً بالإدانة على الآخرين وأنهم يستحقون القتل أو كذا وكذا, ظانا في نفسه, وهو الجالس في بيته مكتفيا بمشاهدة التلفاز أو قراءة الأخبار في الإنترنت, أنه حامي حمى الفضيلة .. وأنه من أشد المتمسكين بها والمدافعين عنها!

ولكن يختلف الحال كثيراً عندما يقترب الإنسان من الصورة ويدقق فيها ويبصر تفاصيلها! فسيجد فيها الكثير والكثير من العناصر, التي ربما قد تجعله يغير حكمه! ربما … إنما الحتمي واليقيني هو أن حكم الإنسان يختلف كلية عندما يصبح هو نفسه أحد عناصر هذه الصورة!

وإذا كان حالنا مع المختلفين معنا في الفكر .. أن نكفرهم أو نفسقهم أو نضللهم أو نهزأ بهم ونُسفه آراءهم, فكيف نتوقع أن تكون نظرتنا إلى “المجرمين”؟!

أولئك الذين ألقي القبض عليهم وصدرت بحقهم أحكام قضائية بالحبس, أو ربما لم تصدر, ولكن يكفي أنه ألقي القبض عليهم, فالمتهم في نظرنا مدان حتى تثبت براءته!

فينظر أكثرنا إلى هؤلاء نظرة تعالي واحتقار, فهؤلاء “رد سجون” و “صِيّع” و “بلطجية” و “إرهابيين” و “قتالين قُتلة” و “حرامية” … الخ القائمة الطويلة من الأوصاف التي نتفنن في إسقاطها على من وطئت أقدامهم أعتاب السجون! ولا يقتصر الأمر عليهم وإنما يتعداه بكل أسف إلى أهليهم وذويهم, فهذه زوجة القاتل وذلك ابن الحرامي وهذا أخو البلطجي .. بينما نحن الشرفاء الأعفاء!!

وبغض النظر عن أنه في السجن كثير من الأبرياء, وأنه “ياما في السجن مظاليم”, إلا أن من نعنيهم بحديثنا هذه المرة هم أولئك الذين ارتكبوا جرماً فعلياً وحُبسوا بسببه! هل يستحقون فعلاً هذه النظرة؟!

قد يفرق بعضنا بين “معتادي الإجرام”, أولئك الذين أصبح الإجرام “مسلكاً طبيعيا” لهم, الذين اتخذوا “الانحراف” مهنة لهم, وبين أولئك الذي اضطرتهم الظروف القاهرة إلى أن يمدوا يدهم ذات مرة ليسرقوا, أو في ثورة غضب وانفعال, امتدت يدهم على غيرهم بالضرب فأصابوهم أو قتلوهم!

فيرى أن ينبغي التفريق بين أولئك وهؤلاء! فهؤلاء ينبغي التخفيف عنهم والتماس الأعذار لهم, بينما ينبغي التشديد مع الآخرين (لأننا نعرف أن كل واحد منا يمكن أن يكون ذلك الشخص في لحظة ما, فنحن نريد تأمين أنفسنا كذلك!).

فأقول: هذا الحكم الذي يصدره كثيرون منا ممن يرون أنفسهم منصفين! هو حكم صادر فقط بناءً على مراعاة “المظاهر” والتي هي وبكل أسف في أكثر الأحيان زائفة, فلأن معتادي الإجرام غالباً ما يكونوا سيئِ المظهر وذو طريقة حديث فظة فهم يستحقون هذا, بينما الآخرون نظيفو الملابس, رقيقو الكلام, فهم ضحية الظروف.

رغما عن أن جرماً واحداً لهؤلاء “النظيفين” قد يكون أكبر بكثير بما لا يقارن مع كل ما ارتكبه هؤلاء طيلة أعمارهم! فمن يسرق الملايين أو يسرق أعضاءهم أو يسممهم, لا يتساوى بحال مع من سرق بضع جنيهات, أو “بلطج” على بعض البائعين والبائعات فكان يأخذ منهم الطعام بدون دفع حسابه!
ناهيك عن أن دافع الجريمة عند كثيرٍ من هؤلاء “اللامعين” قد يكون الجشع والرغبة في زيادة الثروة بأي طريق كان, وليس الاضطرار, كما هو الحال عند الأكثرية الساحقة من المجرمين.

بغض النظر عن هذا كله, نعود فنقول:
لا فارق بين الصنفين, سوى أن أولئك ألقي القبض عليهم بعد الجريمة الأولى, فلم تتح لهم الفرصة لتمتد أيديهم مرة أخرى بإيذاء مالي أو بدني, بينما لم يُلق القبض على الآخرين سريعاً, فارتكبوا الجرم مراراً وتكراراً حتى هان في أعينهم!!

إن الذي نغفل عنه هو أن هؤلاء ربما يكونون “أسوء ظروفاً”, فربما بل وغالباً هم لم يجدوا والدين يوجهان في الطفولة البكرة, يُعرفان الصواب ويمنعونهم الخطأ, وإنما وجدوا أنفسهم في الشارع يلهون ويلعبون طيلة اليوم! أو وجدوا آباء يعاملون بمنتهى القسوة فنفروا منهم, لم يجدوا أسرة توفر لهم احتياجاتهم الرئيسة من مطعم وملبس وألعاب وتعليم وتربية حانية, ولا مجتمع ينظر إليهم نظرة رفيقة
وإنما وجدوا من يتعالى عليهم, لم يجدوا بجوارهم إلا –وبكل أسف- “رفقاء سوء”, آخرين مثلهم ضيعهم المجتمع سابقاً فساءوا, رفقاء سوء سهلوا لهم طريق الانحراف وزينوه أمام عيونهم .. فترددوا ثم سلكوه!

ولا لوم على صغير محروم محتقر منسي مهمل مهمش عندما يفسد, ليحصل على نصيب من الحياة يراه لنفسه مشروعاً, نصيباً يرى أنه لن يصل إليه في يوم من الأيام بوضعه الحالي المذري!

بينما يرى الآخرين –المحظوظين ولادةً- يتلذذون به من حوله! فيسير في طريق الفساد والإجرام لينتقم لنفسه من ذلك المجتمع, وليثبت لنفسه –وللآخرين حوله- أنه قوي جدير بالاحترام أو بالمهابة!

وكما رأينا ف “المجرم” هو ضحية بدرجة كبيرة للمجتمع! يمكنه أن يصرخ بأعلى الصوت “جعلوني مجرما”! احتقروني أولاً ثم يدينونني لاحقاً!


المشكلة أننا ننظر إلى “معتادي الإجرام” على أنهم “جراثيم” أو حيوانات مفترسة يجب تطهير المجتمع منها! وننسى أنهم أناس مثلنا! لهم أهلوهم الذين سيحزنون عليهم! والذين يعانون أصلاً من أجلهم بسبب سلوكهم هذا! ننسى أن بداخلهم الكثير من الجوانب الجيدة والمشاعر الإنسانية الطيبة, والتي هي بحاجة إلى نبش وإظهار!


ومن تتح له الفرصة بأن يحتك بالمساجين الجنائيين أصحاب الجرائم في السجون فسيجد جوانب إنسانية طيبة كثيرة في تصرفاتهم ومعاملاتهم, وعندما يسمع لقصصهم وكيف وصلوا إلى حالهم هذا, غالباً ما سيجد مآسي تُدمي القلب وتدمع العين!

ننسى أن دنيانا هذه كلها هي ساحة اختبار كبرى,وأننا في يوم من الأيام سنقف أمام الله ليحاسبنا على أعمالنا, وسنلتمس ساعتها الأعذار من يمين وشمال, نحب أن يُغفر لنا, وربنا عرفنا أن العفو والصفح هو سبيل للحصول على مغفرة الله! فبدلاً من أن نحكم عليهم بالإعدام –الجسدي أو المعنوي-, فننهي اختبارهم في الدنيا أو نجبرهم على السير في طرق سوء محدودة, نعطيهم الفرصة ليغيروا ما بأنفسهم!!

ولا يعني هذا أنني أدعو إلى إلغاء عقاب من أجرم (ولا أجعل فعل السوء هذا اسماً ملازما له: مجرم, وإنما نعت لحادث ارتكبه), ولكن أدعو إلى تغيير نظرتنا إلى من أجرموا! وكذلك إلى تغيير أسلوب العقاب, فلا يكون العقاب عاماً لكل من ارتكب كذا فيعاقب بكذا, وإنما “عقاباً ذكياً”, متغيراً تبعاً للحالة, وكذلك لا يكون العقاب مجرد عقاب, وإنما كما هو الشعار النظري “السجن إصلاح وتهذيب” وليس: شقاء وتعذيب!

فكما نعامل أبناءنا عندما يخطئون, فنعاقبهم ثم نوجههم ونحنو عليهم ونلتمس لهم الأعذار, فينبغي أن يكون هكذا الحال مع “جل” من أجرم, فهو ضحية بدرجة كبيرة!

فهل يخرج علينا في الأيام القادمة من يبتكر لنا عقوبة غير السجن, يمكن أن يعاقب بها من أجرموا؟ وحتى ذلك اليوم الذي تُبتكر فيه عقوبة جداً حامية للمجتمع ونافعة ومصلحة لمن أجرم
هل سنجد حماسة من راغبي الإصلاح في اجتذاب هؤلاء الضحايا إلى “حظيرة الصلاح”, بأن يُسمع لهم ويُتعرف على مصابهم ودوافعهم ويحاول تغييرها, فتصبح السجون “مفارخ إصلاحية”, كما تكون هناك ليونة في مسألة الحبس, فمن يتأكد من صلاحه مثلاً ربما يأخذ عفوا مبكراً, فنكسب للمجتمع فرداً جديداً صالحاً, بدلاً من أن يخسر بزيادة المفسدين أو العاطلين العالة في السجون!

أعلم أن هناك من لن يعجبه دعوتي هذا لظنه أن ما أقول مجرد مثاليات نظرية, وأنها غير صالحة للتطبيق في أرض الواقع فالمجرم مجرم ولن يتغير!

فأقول: نعم, هناك من لن يسمعوا ولن يستجيبوا مهما حاولنا, فهناك من ختم الله على قلوبهم, نعم, ولكن هؤلاء قلة قليلة, بينما الأكثرية قابلون للإصلاح لو وجدوا من يحاول إصلاحهم! وفي جميع الأحوال علينا أن نحاول, فما أعظم أجر وثواب من يحاول إصلاح خلق الله عند الله! فحتى إن أخفقنا في بعض الحالات فهناك نجاحات أخرى, ويكفي الأجر عند الله وشرف المحاولة.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

اجتهاد جديد غير مسبوق حول صدقة الفطر

بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد وسلام على عباده الذين اصطفى، ثم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.