الاختلاط

ينظر السلفيون إلى اختلاط الرجال بالنساء الأجنبيات عنهم بأنه من البلايا الكبيرة التي تشيع روح الفساد والانـحلال في المجتمع, وإذا حدث وخرجت المرأة فيجب أن يكون هناك فصلٌ تامٌ بينها وبين الرجال في التعليم والعمل والمواصلات,
ولهذا وجدنا في البرنامج الانتخابي لإحدى المرشحات السلفيات أنها ستطبق الشريعة بقطع يد السارق والفصل بين الرجال والنساء وتعميم اللون الأسود لملابس النساء والأبيض للرجال.

والاختلاط عند السلفيين حرامٌ حرامٌ حرام, لا جدال في ذلك, حتى أن الشيخ عبد الرحمن البراك اعتبر هذا من المعلوم من الدين بالضرورة!! وعد منكره مرتداً مباح الدم, وأيده في ذل بعضٌ من مشائخ السعودية!!

والعجب كل العجب أنه ليس لهذا المعلوم من الدين بالضرورة دليلٌ واحدٌ صريح من كتاب أو سنة, فلم ينه الله ولا رسوله عن ذلك,
وإنما هي عقلية الوصي التي رأت فساداً فجزمت بأنه لا بد أن يكون حراماً فحرمته, واتخذت لنفسها على ذلك من الأدلة الكثير, حتى أننا وجدنا أحدهم قدّم أكثر من أربعين دليلاً على حرمة الاختلاط!!

وهذا دليلٌ على ضعف موقفه, فيكفيني لأدلل على حرمة الزنا أن أتلو قول الله تعالى: “وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء : 32]” ولن يجادل أي مستمع في أن الآية نص على الحرمة, أما لأنه لا دليل لهم يكاثرون بالأدلة ليسودوا الصورة أمام المستمع فينزل على حكمهم.

ولأن الأدلة التي أوردها المذكور كثيرة, فسنعرض لبعضها لننظر كيف يستخدمون الأدلة للإفتاء بالتحريم:

أول أدلة المذكور هو دليلٌ ضده, فلقد استدل بقوله تعالى: “وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص : 23]”
فالآية دليلٌ على أنه يجوز للرجل عرض المساعدة على النساء! وأنا نفسي حتى الآن لا أزال أستحي أن أفاتح أي امرأة بالحديث حتى ولو كان لعرض المساعدة! على الرغم من أن الآية بيّنت أنه لا حرج في ذلك! وبيّنت باقي الآيات أن الفتاة أتت على استحياء وسارت معه حتى أوصلته لبيت أبيها, ومن ثم فلا إثم في أن يمشي الرجل مع المرأة الأجنبية لغير منكر.

ولن نعرض لأدلته بشأن أمهات المؤمنين لأن هذا حكم خاص, وإنما نتجاوزها إلى دليل آخر وهو قوله: “وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ … [يوسف : 23]”, فجعل الداعي إلى ارتكاب الزنا هو الاختلاط! ولو كان منطقياً لكان الأولى أن يستخرج من الآية حكما بحرمة إقامة الابن مع زوج الأب, ومن ثم فيجب أن ينشأ الأب بيتاً منفردا لزوجه الجديدة أو يطرد أبناءه الذكور!!!

كما يستدل بقوله: “ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ… وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ..[النور : 31-30]“, وبقوله سبحانه: “يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر : 19]
…. لا تعليق!!!

ثم انتقل بعد ذلك إلى السنة ليأخذ منها أدلة!! جديدة!, فنجده يستدل بالأحاديث التي تتكلم عن فتنة النساء, مثل ما رواه مسلم: “عن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً هِيَ أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ. “

وإذا كان الرسول قد تركها فهل أنت أيها الغيور أغير من الرسول؟!!
كما يستدل بأن الرسول خصص للنساء باباً في المسجد يدخلون منه ونسى أن النساء كن يصلين خلف الرجال بدون أي حواجز ولا فواصل!! كما يستدل بأن النساء كن مفصولات عن الرجال في صلاة العيد وينسى أنهن حضرن العيد وصلين يراهن الرجال!

وهكذا يستدل بروايات تتحدث عن تنظيم وضع خاص للمرأة في مواقف قد تحتك فيها بالرجل احتكاكاً جسديا, فجُعل لها وضعاً مخصوصاً حتى لا تزاحم الرجال فيما قد يؤذيها ويهينها, مثل ما تجعل كل دول العالم عربات خاصة للنساء في بعض وسائل المواصلات, فيستخرج منها دليلاً على حرمة الاختلاط!! ونـحن لا نجادل في حرمة احتكاك المرأة بالرجل, أما أن يُمنع التعليم المختلط أو العمل المختلط أو المواصلات المختلط بحجة أن الاختلاط حرام فهذا ما لا نقبل!

كما يستدل بالأحاديث التي تأمر بغض البصر ويرى أنه لا سبيل لغض البصر إلا منع الاختلاط! ولكن لماذا وكيف غاب هذا عن الرسول الذي اكتفى بالأمر بغض البصر ولم يمنع النساء الحركة؟! يبدو أنهم أحذق من الرسول!!

إن مشكلة التيار السلفي هي اعتمادهم روايات قولية ليبنوا عليها أحكام بالحرمة, وينسوا الروايات التي كانت تتحدث عن فعل وحال الرسول والصحابة والتي تبين أن التعامل في مجتمع المدينة كان تعاملاً طبيعيا بين الرجال والنساء, بل هو أكثر انفتاحاً من مجتمعاتنا الحالية, فنجد أن المرأة كانت تخدم ضيوفها وضيوف زوجها وهم يرونها بدون أي تحرج, بينما يتحرج كثيرون من أن يرى الضيوف زوجه في المنزل ويعد هذا من الجرأة!

فنجد الحاكم يروي عن أبي هريرة:
“قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصابني الجهد. فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا رجل يضيف هذا الليلة يرحمه الله» فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ندخر منه شيئا. قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة ففعلت. ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد عجب الله -أي: لقد ضحك الله عز وجل- من فلان وفلانة» “

فالمرأة جلست مع زوجها والضيف وقامت تتظاهر أن تصلح المصباح فأطفأته وتظاهرا بالأكل, ولم يجدا في هذا حرجا, كما يروي البخاري:
“حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ قَالَ: لَمَّا عَرَّسَ أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ دَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ فَمَا صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا وَلَا قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ إِلَّا امْرَأَتُهُ أُمُّ أُسَيْدٍ بَلَّتْ تَمَرَاتٍ فِي تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ مِنْ اللَّيْلِ فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الطَّعَامِ أَمَاثَتْهُ لَهُ فَسَقَتْهُ تُتْحِفُهُ بِذَلِكَ “

فها هي المرأة تقدم الطعام لضيوفها بنفسها بدون أي حرج.
ولم تتحرج أم الدرداء من أن تعود واحداً من الأنصار عند مرضه, وصنف البخاري في هذا باباً في صحيحه فقال: ” بَاب عِيَادَةِ النِّسَاءِ الرِّجَالَ وَعَادَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مِنْ الْأَنْصَارِ”

كما أن النبي الكريم أباح دخول الرجلين والثلاثة على المرأة, مما يؤمن معه وقوع الفاحشة, فيروي مسلم: “عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حَدَّثَهُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ دَخَلُوا عَلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَهِيَ تَحْتَهُ يَوْمَئِذٍ فَرَآهُمْ فَكَرِهَ ذَلِكَ. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: لَمْ أَرَ إِلَّا خَيْرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَرَّأَهَا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: لَا يَدْخُلَنَّ رَجُلٌ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا عَلَى مُغِيبَةٍ إِلَّا وَمَعَهُ رَجُلٌ أَوْ اثْنَانِ “

إن الروايات الفعلية تبيّن أنه لم يكن ثمة ذلك الحرج المصطنع الذي طرأ على مجتمعاتنا في التعامل مع المرأة, وأن الرجال كن يكلمن النساء –بتحشم-, وكان يدخلون على العجائز –ولا يُحسب هذا عليهن فاحشة!-
, كما روى البخاري:
“عَنْ سَهْلٍ قَالَ: كُنَّا نَفْرَحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. قُلْتُ: وَلِمَ قَالَ: كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تُرْسِلُ إِلَى بُضَاعَةَ قَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ نَخْلٍ بِالْمَدِينَةِ فَتَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ السِّلْقِ فَتَطْرَحُهُ فِي قِدْرٍ وَتُكَرْكِرُ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ انْصَرَفْنَا وَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا فَتُقَدِّمُهُ إِلَيْنَا فَنَفْرَحُ مِنْ أَجْلِهِ…. “

وكانت المرأة تبيع وتشتري, وكانت أم سلمة “صناع اليدين” (كما روى ابن ماجه) أي أنها كانت “صاحبة صنعة” وتبيع ما تصنع, وكانت أم السائب بن الأقرع الثقفية تبيع العطر للنبي, وولّى عمر بن الخطاب الشّفاء بنت عبد الله ولاية الحسبة والأسواق والتجارات,
أما الفصل الحاد بين الرجال والنساء, الذي يصل لدرجة ألا تُدرس النساء للأولاد في رياض الأطفال “الحضانة” لأن هذا اختلاط, فهذا تعنت لن يؤدي إلى إنشاء مجتمع سليم, وإنما أفراد شبقة تعاني من تعلقٍ مَرضي بالمرأة أو إلى ظهور الشذوذ.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

الإنسان ليس مجبرا

جاءني سؤال يقول:هل الانسان مجبر عن البحث عن حقيقة الكون والغاية من الحياة، فقد يقول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.