حكم الختان

ختلف الفقهاء في حكم الختان بين قائل بوجوب وبين قائل بالسنية المؤكدة أو بالسنية, ومنهم من فرق بين الرجال والنساء, استناداً إلى حديث مروي عند أحمد وغيره عن النبي يقول: “الختان سنة للرجال مكرمة للنساء”, لذا ننظر في أدلة القائلين بوجوب الختان, لننظر هل لهم مستند قوي فيها:

الناظر في المسألة يجد أنه لا دليل في القرآن على مسألة الختان, فلم يعرض لها القرآن لا من قريب ولا بعيد, إلا أنه لا بد أن يأتوا بدليل من القرآن يؤكد كلامهم, فقالوا أن الدليل على وجوبه هو قوله تعالى في حق الخليل إبراهيم:
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة : 124]
فقالوا أنه أمر بأشياء من بينها الختان, كما روي عن ابن عباس:
“وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات” قال، ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء.

فقالوا: بما أن الله تعالى أمر النبي الكريم أن يتبع ملة إبراهيم:
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل : 123]
وكان من ملته الختان, فمن ثم يكون المسلم ملزما به ومأمورا بفعله! وفي هذا قال الإمام النووي : إن الآية صريحة في اتباعه فيما فعله إلا ما قام دليل على أنه سنة في حقنا كالسواك ونحوه. واستدلوا أيضا بأن الختان تكشف له العورة وكشف العورة حرام ولا يقاوم الحرمة إلا الوجوب. واستدلوا أيضا بأن في الختان جرح وإيلام وهذا حرام أيضا ولا يقاومه إلا الوجوب” اهـ

ولست أدري صراحة كيف قبلوا أن تكون الأمور التي جُعل من أجلها الخليل إبراهيم إماما للناس هي ما يفعله عامة الناس الآن, وهي من الفرعيات والشكليات التي لا يلقي لها الناس بالا, فهل لهذا استحق أن يكون إماما؟ وهل من ثم نستحق أن نكون أئمة للناس طالما أننا نفعل هذه الأمور؟!

إن الإتمام يكون لما يمكن أن يؤدى ناقصا, وهذه الأمور المذكورة كلها إما أن تُفعل أو تترك وفعلها ليس إتماما وإنما قضاء (أداء), فهل مدح الله الخليل إبراهيم لأنه قص شاربه كله ولم يقص نصفه أم لأنه قلم كل أظافره ولم يقلم بعضها ويترك الأخرى, ولست أدري كيف يمكن أن يؤتى بالختان ناقصا؟!

إن هذه الأشياء المذكورة في الرواية لا تستحق أن تكون كلمات (تبعا للاستعمال القرآني), كما أنها ليست ابتلاء بحال, فهي ليست اختباراً عسيرا منهكا, (ونطلب إلى القارئ أن يرجع إلى موضوعنا حول: الفتنة والبلاء والابتلاء, والذي فرقنا فيه بين هذه المفردات) فلم يكن الناس قديما عاشقين للقذارة إلى هذا الحد, حتى أن الأمر بالنظافة الشخصية يصبح ابتلاء ويستحق فاعله أن يصبح إماما!

والمبطل الصريح لاستدلالهم بوجوب إتباع تفاصيل دين إبراهيم هو أن الله تعالى بيّن في نفس السورة أن المقصود من الملة هو أصل الدين وهو وحدانية الله:
وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة : 130-132]
إذا فليس ثمة دليل من القرآن على وجوب الختان, وهذا وحده كاف للحكم على أن الختان لا يمكن أن يكون واجباً على الذكور ولا على الإناث, وأنه في حال ورود روايات عن النبي الكريم تأمر به فإنها تكون من باب كلام النبي بصفته إنساناً أو حاكما يتكلم تبعاً لأعراف بلده وزمانه.

فإذا نظرنا في الروايات الواردة عن النبي الكريم, سنجد فعلاً أن النبي لم يأمر بهذا الأمر الذي لم يأت في القرآن, فلا نجد رواية تأمر المسلمين بالختان, لا ذكوراً ولا إناثاً, فلم يقل: اختنوا أولادكم أو بناتكم!

ومن ثم فلا يمكننا الحديث حتى عن سنية هذا الفعل, فلو كان كذلك لأمر به الرسول الكريم, ولبين لنا كيف يُفعل ومتى, ولكن لم نجد من هذا شيئاً, ومن ثم فإن الحكم الأصلي بالإباحة يبقى على حاله.

قد يقول قائل: ولكن هناك بعض الروايات تقول أن النبي كان يأمر من يدخل في الإسلام بالاختتان.
فنقول: نعم, وردت رواية حكم عليها علماء الحديث بالضعف, في الآحاد والمثاني تقول:
حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ قَتَادَةَ الرُّهَاوِيُّ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمْتُ ، فَقَالَ لِي : يَا قَتَادَةُ اغْتَسِلْ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَاحْلِقْ عَنْكَ شَعْرَ الْكُفْرِ. قَالَ : وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ مَنْ أَسْلَمَ أَنْ يَخْتَتِنَ وَإِنْ كَانَ ابْنَ ثَمَانِينَ.

وحتى على فرض صحتها, فإن قول النبي لم يزد عن أمره بالاغتسال والحلاقة, بينما الجملة الأخيرة من زيادة الراوي, وهي جملة –بالإضافة إلى ضعف الحديث- مخالفة للروايات الصحيحة, التي لم تذكر أن النبي الكريم كان يشترط على الداخلين في الإسلام الاختتان, فنجد الإمام مسلم مثلاً يروي في صحيحه:
“عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ قَالَ صَدَقَ قَالَ فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ قَالَ اللَّهُ قَالَ فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ قَالَ اللَّهُ قَالَ فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ قَالَ اللَّهُ قَالَ فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَخَلَقَ الْأَرْضَ وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا قَالَ صَدَقَ قَالَ فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا قَالَ صَدَقَ قَالَ فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي سَنَتِنَا قَالَ صَدَقَ قَالَ فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ صَدَقَ قَالَ ثُمَّ وَلَّى قَالَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ” اهـ

فلم يشترط الرسول عليه أن يختتن, والذي زادته الروايات الأخرى هو أن الرسول قال له: إلا أن تطوع!
وانظر أخي في كل الروايات المتعلقة بعام الوفود لا تجد رواية واحدة تقول أن الرسول الكريم أمر أحد القادمين بالاختتان!

وليس الأمر من باب الاستنتاج فهناك رواية في الفوائد المعللة تقول:
” حدثنا أبو زرعة قال وسمعت أبا عبد الله يسئل عن الكافر يسلم قال أن كان يخاف عليه من الختان فلا بأس. يعني أن لا يختتن وقد أسلم أناس من البصرة فختنوا فمات بعضهم قال أحمد قد روى عن الحسن أنه قال: قد أسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرومي والفارسي وغيرهم فلم يكشفوا .”

إذا فالرسول الكريم لم يأمر المسلمين بالاختتان ولم يأمر الداخلين في الإسلام بالاختتان, ومن ثم فهي عادة عربية كانت موجودة قبل الرسول وفي زمانه, ومن ثم حاول التابعون أو بعض الصحابة جعلها من الدين –ليحافظوا على الحال الذي كانوا عليه مع الرسول الكريم وبهذا لا يكونوا من المغيرين-, وتنوقلت الروايات التي تعطي هذا الانطباع, مثل ما رواه مالك في الموطأ:

“سمع سعيد بن المسيب يقول : كان إبراهيم عليه السلام أول الناس ضيف الضيف وأول الناس اختتن وأول الناس قص شاربه وأول الناس رأى الشيب فقال : يا رب ما هذا ؟ فقال الله تعالى : وقار يا إبراهيم قال : رب زدني وقارا.”

وهي رواية تشير إلى التراث الذي كان موجودا في هذا الزمان, ونحن لا نقبل الرواية لمخالفتها سنن الله في خلقه, فالشيب ظاهرة موجودة في البشرية وليست عرضا ظهر مع الخليل إبراهيم: ” اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم : 54]”, كما أن الزعم بأنه أول من ضيف الضيف أمر يأباه العقل!

وإن كنا لا نرد الجزء الذي يقول أنه اختتن, فليس ثمة ما يمنع هذا, والتراث العربي تناقل أن الخليل اختتن في القدوم, فنجد البيهقي يروي في شعب الإيمان:
عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلُ مَنِ اخْتَتَنَ ، وَأَوَّلُ مَنْ قَرَى الضَّيْفَ، وَأَوَّلُ مَنْ رَأَى الشَّيْبَ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَى الشَّيْبَ، قَالَ: أَيْ يَا رَبِّ، مَا هَذَا ؟ قَالَ: ” هَذَا وَقَارٌ وَحِلْمٌ “، قَالَ: أَيْ رَبِّ، فَزِدْنِي وَقَارًا، وَاخْتَتَنَ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ* وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ مِائَتَيْ سَنَةٍ ” قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: اسْمُ قَرْيَةٍ، هَكَذَا أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ، قُلْتُ: كَذَا، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْآلَةَ، فَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَجَّلَ قَبْلَ أَنْ يُعَلِّمَ الْآلَةَ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
__________________________
* لم يختتن بالآلة (الفأس), وإلا لبتر عضوه كاملا, وإنما هي بلد القدوم, ونجد في: معجم البلدان لياقوت الحموي:
القدوم بالفتح وتخفيف الدال وواو ساكنة وميم وهو في لغة العرب الفأس التي ينحت بها الخشب وجمعها قدم قال فقلت أعيراني القدوم لعلني أخط بها قبرا لأبيض ماجد قال أبو منصور قال ابن شميل في قول النبي صلى الله عليه و سلم أول من اختتن إبراهيم بالقدوم قال قطعه بها فقيل له يقولون قدوم قرية بالشام فلم يعرفها وثبت على قوله وقال أبو الحسن الخوارزمي القدوم بتشديد الدال اسم قرية بالشام ختن بها إبراهيم الخليل عليه السلام نفسه وعن جار الله العلامة القدوم بالألف واللام والتشديد وهي الفأس العظيمة قال وأما قدوم بغير ألف ولام غير مصروف فهو اسم البلد و قدوم أيضا اسم ثنية بالسراة و قدوم بالتخفيف موضع من نعمان وقدوم حصن باليمن

…….. عن عبد الله بن إبراهيم الجمحي كانت بنو ظفر من بني سليم وبنو خناعة حربا فدل رجل من بني خناعة بني ظفر على بني وائلة بن مطحل وهم بالقدوم من نعمان فبيتوهم فقتلوا من بني وائلة خالدا ومخلدا وصبيا بثلاثة من بني خراق فقال المعترض بن حبواء الظفري قتلنا مخلدا بابني خراق وآخر جحوشا فوق الفطيم وخالدا الذي تأوي إليه أرامل لا يؤبن إلى حميم وإما تقتلوا نفرا فإنا فجعناكم بأصحاب القدوم و القدوم اسم جبل بالحجاز قرب المدينة)

وليس ثمة ما يمنع أن يكون الخليل هو أول من اختتن وأظهر هذه العادة وتمسك بها أبناءه من بعده, وفي الروايات ما يربط ختان الإناث بالخليل إبراهيم عليه السلام,
عنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: “ كَانَتْ آجَرَ لِسَارَّةَ فَأَعْطَتْ إِبْرَاهِيمَ، فَاسْتَبَقَ إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ، فَسَبَقَهُ إِسْمَاعِيلُ فَجلَسَ فِي حِجْرِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَتْ سَارَّةُ: أَظُنُّهُ وَاللهِ لَأُغَيِّرَنَّ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَشْرَافٍ، فَخَشِيَ إِبْرَاهِيمُ أَنْ تَجْدَعَهَا أَوْ تَخْرِمَ أُذُنَيْهَا، فَقَالَ لَهَا: هَلْ لَكِ أَنْ تَفْعَلِي شَيْئًا وَتَبَرِّي يَمِينَكِ، تَثْقُبِينَ أُذُنَيْهَا أَوْ تَخْفِضِيهَا، فَكَانَ أَوَّلَ الْخِفَاضِ هَذَا “

والروايات التي تربط الختان بالخليل وتقول أنه أول من فعل تناقض تلك التي تقول أنه من الفطرة, مثل: ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة يرفعُه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: “الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط”
(والتي هي في الأصل من أقوال الصحابة والتابعين ثم رُفعت إلى النبي الكريم) فلو كانت من الفطرة لفعلها الناس من لدن آدم, أم أنهم لم يكن لديهم فطرة وظهرت كذلك مع إبراهيم الخليل؟

كما أنها مناقضة للواقع الذي يقول أن الناس لا يختتون ولا يستحدون من تلقاء أنفسهم إن لم يوجههم غيرهم إلى ذلك, وهناك الكثير من البشر لا يفعلون, ومن ثم لا يمكن أن تكون من الفطرة!!

(وتفسيرهم للفطرة بمعنى السنة التفاف لتمرير روايات غير صحيحة المعنى, ولا يستحق أن يلقي له المرء بالاً ليناقشه)
ومن ثم فإن مستند هذا الحكم هو موقف متشدد نسبته الروايات إلى بعض الصحابة, الذين ربما رأوا في هذا مظهرا من مظاهر الكفر, مثل ما رواه عبد الرزاق في مصنفه:

“عن قتادة قال: كان بن عباس يكره ذبيحة الأغرل ويقول لا تجوز شهادته ولا تقبل صلاته. قال: معمر فسألت عنه حمادا: فقال لا بأس بذبيحته وتجوز شهادته وتقبل صلاته. قال معمر: وكان الحسن يرخص في الرجل إذا أسلم بعد ما يكبر فخاف على نفسه العنت إن اختتن أن لا يختتن وكان لا يرى بأكل ذبيحته بأسا.

ولأن هذا الموقف ليس له مستند من كتاب الله, وإنما هو التراث, مثل ما رواه البزار في مسنده: عَن أبي هُرَيرة ، قال : اختتن إبراهيم بالقدوم – أحسبه قال – وقد أتت عليه ثمانون سنة.

وُجدت بعض الروايات التي تنسب هذه إلى النبي, مثل ما رواه البيهقي في السنن الكبرى عن:
“عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : وَجَدْنَا فِى قَائِمِ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى الصَّحِيفَةِ :« إِنَّ الأَقْلَفَ لاَ يُتْرَكُ فِى الإِسْلاَمِ حَتَّى يَخْتَتِنَ وَلَوْ بَلَغَ ثَمَانِينَ سَنَةً »

ولو كان هذا الأمر من المشتهر لما كان هناك الحاجة إلى نسبة هذا إلى ما وُجد بعد الرسول, ولقيل أن الرسول أمر بكذا وكذا! ولكنها محاولة لإيجاد أصل لهذه الفتاوى.
ومثل ما رواه الفاكهي في أخبار مكة:
“قال : حدثتنا جدتي أم الأسود ، عن منية بنت عبيد بن أبي برزة ، عن جدها أبي برزة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأقلف يحج البيت ؟ قال : « حتى يختن »”

فإذا كان النبي لم يأمر أحداً من الداخلين في الإسلام بالاختتان, فلماذا السؤال حول هذا الأمر, والعجيب أن الإجابة جعلت قبول الحج متوقف على اختتانه, فإن اختتن لاحقاً قُبل وإلا رُد عليه!! وربما يكون هذا في اليهودية, وليس في الإسلام الذي لم يرد فيه أي نص له علاقة بالختان!! إلا نصوص -للصحابة والتابعين- قرنته بقص الأظفار وحلق العانة والمضمضة وما شابه, فهل لا يُقبل عمل المرء ما لم يقص أظفاره؟!!

وختاما نقول: إن الروايات الواردة في مسألة الختان هذه هي روايات ضعيفة, لهذا وجدنا الإمام البيهقي يقول في: شعب الإيمان:
” وأحسن ما يستدل به في هذه المسألة ما أخبرنا …. عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اختتن إبراهيم النبي صلى الله عليه و سلم وهو بن ثمانين سنة بالقدوم رواه البخاري ومسلم في الصحيح عن قتيبة بن سعيد
وقد قال الله تبارك وتعالى { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا }
وروينا في كتاب الطهارة عن بن عباس في قوله وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال ابتلاه الله عز و جل بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس وفي الجسد تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل مكان الغائط والبول بالماء قال أصحابنا والابتلاء إنما يقع في الغالب بما يكون واجبا.”

وكما بيّنا فليس للآية علاقة بهذه الأمور.” اهـ
وكما بيّنا فليس للآية علاقة بالختان ولا بتلك الأمور, ومن ثم فلا دليل.

والروايات الأخرى الواردة في الباب مثل قوله عليه الصلاة والسلام لأم عطية ختانة كانت بالمدينة ( إذا خفضت فأشمي ولا تنهكي فإنه أسرى للوجه وأحظى عند الزوج): (وهي رواية ضعيفة), لا تقول أن النبي أمر, وإنما لا تزيد على أن الرسول لم يُحرم هذه المسألة ولم ينه عنها, وإنما كره التشويه للأعضاء, وهذا ما لا يختلف حوله أحد.


والنبي الكريم نفسه الذي نقلت الروايات عنه كل كبيرة وصغيرة في وصف هيئته لم تقل رواية منها أنه كان مختوناً (وإن وردت بعض الروايات الشديدة الضعف – لسد هذا الفراغ – تقول أنه وُلد مختوناً!!!),
ولهذا اختلف العلماء في العصور المتأخرة في ختان النبي الكريم على ثلاثة أقوال, وعدم ذكر الاختتان في الروايات التي ذكرت نعت النبي دليل على أن هذه المسألة لم تكن مما يلقي له المرء بالاً في عهد الرسول والصحابة ولهذا لم تُذكر!

وكذلك لم ينقل أنه ختن أحدا من أولاده ولا من بناته (وإن كانت وردت رواية تقول أن ختن الحسن والحسين), وسواء فعل أو لم يفعل, فإن سكوت الروايات عن هذا الأمر دليل على أنها لم تكن مما يُعد دينا في تلك الحقبة.

وكما رأينا فإن الروايات الموجودة لا تصلح لتأصيل حكم بوجوب أو حتى سنية, وإنما تصرح أنها كانت عادة, لا نزال سائرين عليها, مناسبة كان العرب يحتفلون بها, -كما نحتفل نحن المصريين ب: “طهور” الولد, فنجد الفاكهي يروي في أخبار مكة عن عكرمة، قال : « إن ابن عباس رضي الله عنهما ختن ابنا له ، فأرسلني ، فدعوت اللعابين ، فأعطاهم أربعة دراهم »

ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم بن حميد المخزومي ، عن عمه ، عيسى بن عبد الحميد قال : « ختن عطاء ولده ، فدعاني في وليمته في دار الأخنس ، فلما فرغ الناس جلس عطاء على منبر ، فقسم بقية الطعام ، ودعا القينان : الغريض وابن سريج ، فجعلا يغنيانهم ، فقالوا لعطاء : أيهما أحسن غناء ؟ فقال : يغنيان حتى أسمع ، فأعادا ، واستمع ، فقال : أحسنهما الرقيق الصوت يعني ابن سريج » وكان هذا من فعل أهل مكة ورأيهم استماع الغناء ، ويروون فيه أحاديث.” اهـ

ومن ثم فإن جعل العادة ديناً هو تقول على الله العليم الحكيم المشرع, ولذا فليس ثمة داعٍ لإلزام غير العرب بها, فإذا كان قد انقضى من عمر الإنسان ثلاثين أو ثمانين عاما فما الفائدة من اختتانه؟!.


وربما يرفض بعض القراء هذا القول ويتمسك بسنية الختان على الأقل, وهذا ما فعلته عندما قرأت هذا الرأي للشيخ أحمد حجازي السقا رحمه الله رحمة واسعة, -والذي قال به في أحد كتبه-, إلا أنه ظهر لي بعد النظر في الروايات الواردة في الباب أنه لا دليل فيها على التشريع ولا اندراج لها تحت أي حكم من أحكام الدين,
ومن ثم تبقى في حكم العادة, ويصبح القول الفصل فيها للأطباء,
ومن ثم لا حاجة لإجبار الداخلين في الإسلام من البالغين على الختان, فهذه من العادات العربية –المصرية القديمة والله أعلى وأعلم

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

اجتهاد جديد غير مسبوق حول صدقة الفطر

بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد وسلام على عباده الذين اصطفى، ثم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.