هل أنت نَصي أم نُصّي؟

نطرح اليوم سؤالا على القارئ الكريم, نعرف به ونُعّرفه به, كيف يتعامل مع النصوص وكيف يطبقها في واقع حياته.
والسؤال هو: هل أنت نَصي؟

وليس المراد من ذلك السؤال إذا كان القارئ يتبع النص أم لا, فهذا هو الواجب بداهة على كل إنسان مسلم, فما الدين إلا مجموعة من النصوص, على المسلم أن يعمل عقله في فهمه ثم يطبقها في الواقع.

ولكن السؤال هو: كيف تطبق هذه النصوص؟
هل تطبق النصوص كلها قدر الاستطاعة, وإذا خالفت بعضها فتعلم أنك من المخالفين, وتعلم أن هذا تقصير منك, سرعان ما ترفعه؟
أم أنك ممن يطبق النصوص عندما تكون في صالحك, وتتجاهلها وتتخذها ظهريا إذا كانت تمثل ثقلا عليك؟

هل أنت ممن يأخذون ببعض الكتاب ويتركون بعض؟

الذي أعجب له أننا نجد كثيرا من عينة مطبقي النصوص في المصالح, ومن عينة متتبعي الرخص والجواز, وتاركي الأفضل الذي يتطلب جهدا, يتتبعون الرخص والجوازات بغض النظر عما يسببه هذا الجائز.

فإذا تناقشت مع واحد منهم وقلت له: يا أخي هذا لا يصح, ومن الأفضل أن تفعل كذا وكذا. تجد أن وجهه قد احمر وانتفخ, ويقول لك:
كيف تقول هذا, إن ما أفعله وأقوم به جائز ولا حرج علي, فلا دليل من الكتاب أو السنة على المنع, ولقد قام به فلان وعلان فكيف لا يكون جائزا!

ولقد اشتكى الإمام أبوبكر بن العربي من هؤلاء النصيين, الذين يريدون لكل فعل يفعلونه نصا من الكتاب أو السنة ووصفهم بالحمير!
ونوضح ما نقوله بمثال حتى يتضح الأمر للقارئ:

لا يوجد في القرآن أو السنة نص صريح واحد يحدد نسبة الربح, فمن الممكن أن يربح الإنسان من البضاعة أو السلعة 20 أو 50 أو 100 أو 200% ,
ويستند السادة التجار الملتزمون إلى نقطة الإباحة هذه, فيقولون: لا حرج في أن نكسب ما نشاء, فهذا من الكسب الحلال والذي لا دخل أو شبهة ربا فيه! فتجد أحدهم يبخس الناس أشياءهم عند شراءها, -ناسيا قوله تعالى “ولا تبخسوا الناس أشياءهم- ثم يبعيها بما يزيد عن أضعاف ثمنها!

وحكى لي أخ أنه ذهب ليبيع حاجة من حاجياته فدخل محل تصادف أن الواقف فيه كان إنسانا ملتحيا, فلما عرضها عليها بخس سعرها, فقال له: يا شيخ إن هذا السعر لا يقبل, بالله عليك بكم ستبيعها؟ فرد عليه الشيخ بكل صدق ذاكر المبلغ الذي سيبيعها به وهو ثلاثة أضعاف ما يريد أن يدفعه لصديقي! فقال له صديقي: وهل هذا من الدين؟ فانتفخت أوداجه واحمر وجهه وقال له: وما أدراك أنت بالدين أو بالتجارة في الإسلام!

فهؤلاء يبخسون الناس أشياءهم ولا يخففون عن الناس متاعبهم, كل هذا بحجة أن الكسب مباح بأي نسبة كانت حتى ولو وصلت إلى عشرة أضعاف .. والتجارة شطارة!!!!!!

وينسى هؤلاء “المصلحجية” أنه قد وردت نصوص أخرى تحث على القناعة, وتوضح مكروهية الطمع والجشع, وأن على الإنسان أن ينزعهما انتزاعا من قلبه, وتبين أن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه, وأنه من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة …..

ينسون هذه النصوص كلها وأمثالها ولا يتذكرون أن الكسب بأي نسبة جائز ولا يعدون هذا جشعا بحال! وكل إنسان لا ينظر عند التطبيق إلا إلى نفسه, فيظن أن رفعه السعر أو تنزيله لن يؤثر في المجتمع في شيء!

وما المجتمع إلا مجتمع أفراد, فإذا خفض فرد تبعه آخرون حتى يستمر التنافس, ولكن الكل يتنافس في رفع الأسعار! ولا يهمه تأثير فعله على المجتمع! فليحدث ما يحدث المهم المكسب الحلال!
ونذكر نموذجا آخر لهذا الكسب الحلال! البغيض الكريه, وهو ما يقوم به بعض المتدينون
به بدون أي حرج –ونحن إذ ننقد المتدينين لأنه من المفترض أن يقدموا للناس الأسوة الحسنة لا أن يكونوا تعاملا كالآخرين ويختلفون فقط مظهرا- وهو تشريد الأسر المسلمة والقضاء على الاستقرار!

فمع ظهور قانون الإيجار الجديد في مصر, والذي أصبح على النقيض تماما من القانون القديم, يصب في مصلحة المؤجر كلية, رأينا أصحاب العقارات يرفعون الأسعار من عام إلى آخر, ولا يريدون أن يطيلوا مدة العقد عن عام أو عامين, حتى يستطيع أن يخرج الساكن متى أراد وحتى يتمكن من رفع الإيجار كما يحب!

وهكذا ظهرت عندنا في مصر طائفة جديدة من البدو الرحل, أقصد من السكان الرحل, الذين لا يستقر لهم مقام في مكان, فلا يحق لهؤلاء أن يقيموا علاقات مع أناس أو يتعلقوا بهم, لأنهم سرعان ما سيغادرون المكان ويذهبون إلى آخر! يبحثون فيه مجددا عن ارتباط وتواصل سرعان ما سينفصم, وعن مدارس سرعان ما سيتركها أبناءهم, وأصدقاء سرعان ما سينسونهم!
وهكذا تتحول حياة هؤلاء البشر إلى قلق دائم وبحث مستمر عن مسكن مناسب في مكان مناسب! وهكذا يظل الإنسان طيلة عمره في تنقل, ما أن يحط رحاله حتى يرفعها! وأصبح هؤلاء الكرام زوارا خفافا على كل عمارة سكنية لفترة من الزمن! فليس لهم من صديق أو جار, لأنهم سيغادرونهم قريبا!

ولا يتحرج أصحاب العقارات من أي شيء, فالمهم هو المكسب الحلال! ولتذهب الأُسر إلى ….. آخر الدنيا!
لذا فإنا نهيب بك أخي القارئ في نهاية هذا المقال, الذي ذكرنا فيه نموذجا واحدا,
أن تكون ممن يسقطون النص على الواقع, -تحاول أن تطبق هذا في باقي تعاملاتك, فتراعي فيها إخوانك كما تراعي نفسك, وتحب لأخيك ما تحب لنفسه- لا ممن يضيعونه ولا يطبقونه, ولا من الذين يطبقون بعضه ويتركون بعض, تبعا لأهواءهم ومصلحتهم!
فالكتاب كله أمر الله وهو كله واجب الاتباع! فلنأخذ بالكتاب كله ولا نكون ممن يأخذون عرض هذا الأدنى ونقول سيغفر لنا!
غفر الله لنا ولكم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

حول إنكار العقل الغربي ل “النظام الكبير”!!!

في إحدى اللقاءات المطولة على اليوتيوب عن اللغة وفلسفتها، ذكر المتحدث رأي دو سوسير، القائل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.