هل القارعة هي اليوم الآخر؟

فنتناول اليوم بإذن الله وعونه سورة القارعة. والسورة وإن كانت مشهورة المعاني والألفاظ, واضحة التركيب والسياق, إلا أنا نتناولها لنوضح بفتح الله وفضله التناسب والترابط بين الآيات وبعضها, اللهم افتح ويسر:

الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)

نبدأ حديثنا بالتنبيه على العلاقة بين هذه السورة والسورة السابقة واللاحقة لها, فإذا نحن نظرنا في السورة السابقة لها وهي العاديات وجدنا أنها تنتهي بقوله تعالى “إن ربهم بهم يومئذ لخبير”
وقلنا أن هذا يكون ساعة الموت –ارجع إلى تناولنا للسورة على موقعنا- ثم تبدأ السورة التالية بالقرع وهو ما يوقظ الموتى, –
وهذا ما سنوضحه في السورة- إذا فالعلاقة واضحة بين أول السورة وآخر السورة السابقة, فإذا انتقلنا إلى السورة التالية وهي سورة التكاثر وجدناها تبدأ بقوله تعالى “ألهاكم التكاثر”. فإذا نظرنا في آخر سورتنا هذه وجدناها تنتهي بقوله تعالى “نار حامية” فكأن الله تعالى يقول: النار الحامية جزاء مستحق لأنه ألهاكم التكاثر عني وعن اليوم الآخر. إذا فالعلاقة بين السورة وسابقتها ولاحقتها أظهر ما يكون, ونبدأ بعون الله في تناول السورة نفسها:

أول ما نلاحظه في هذه السورة أنها لا تبدأ بالقسم أو بأسلوب شرط, كما وجدنا في سور أخر كسورة العاديات أو سورة الشمس, وإنما تبدأ هكذا مباشرة بكلمة واحدة تشكل آية كاملة وهي قوله تعالى “القارعة”.

والبدء بهذه الكلمة وكونها آية مستقلة يقرع الأذن ويحير الذهن ويدفعه للتساؤل, ما هي القارعة وماذا تقرع؟ فتأتي الآية الثانية لتؤكد هذا التشوف والتوتر, فتقول: ما القارعة؟ فيعظم القلق والترقب عند الإنسان. فتأتي الآية الثالثة فتؤكد هذا الشعور والفكر فتقول: “وما أدراك ما القارعة” وهنا يتساءل الإنسان: ماذا تكون هذه القارعة وماذا يحدث فيها؟

إذا نحن نظرنا في كتاب الله تعالى وجدنا أن الأسلوب المستعمل في بداية هذه السورة مطابق للأسلوب الوارد في سورة الحاقة, حيث تبدأ السورة بقوله تعالى “الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة” ثم نفاجأ بأن الله تعالى يربع هناك فيقول: ” كذبت ثمود وعاد بالقارعة” ولم يقل بالحاقة!

إذا فهناك علاقة بين الحاقة والقارعة, وإشارة إلى أن الحاقة هي القارعة! فإذا نحن واصلنا القراءة في نفس السورة وجدنا أن الله تعالى يقول: ” َفإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [الحاقة : 15,14,13] –لذا فيمكننا الإجابة على السؤال: متى تقع الواقعة؟ من خلال هذه السورة, فإذا نحن قرأنا مطلع سورة الواقعة ” ِإذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [الواقعة : 1]”

إذا فهناك علاقة بين الحاقة والقارعة والواقعة, فنلاحظ أن الأرض والجبال تدكان في سورة الحاقة, وترج الأرض في الواقعة وتبس الجبال بسا, حتى تصير هباءا منبثا وتكون كالعهن في سورة القارعة, وسنعود للجبال عند حديثنا عنها في القارعة. ولكن نلاحظ أن الواقعة وصفت بالفعل “وقعت” أما الحاقة والقارعة فلم يكن لهما وصف بالفعل وإنما بالتهويل والتشديد على عظمتهما “ما الحاقة, ما القارعة” , “وما أدراك ما الحاقة, وما أدراك ما القارعة”. فما هي القارعة التي هي لا محالة حاقة؟

إذا نحن رجعنا إلى كتاب الله تعالى وجدناه لم يذكر “قارعة” بخلاف القارعة والحاقة القارعة إلى في سورة الرعد وفيها يقول الله تعالى “وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [الرعد : 31]” فيمكننا من خلال هذه الآية تحديد المعنى الرئيس الإجمالي للقارعة, فإذا نحن رجعنا إلى معاجم اللغة وجدنا ابن منظور يقول في اللسان:

” القَرَعُ: قَرَعُ الرأْس وهو أَن يَصْلَعَ فلا يبقى على رأْسه شعر، وقيل: هو ذَهابُ الشعر من داءٍ؛ قَرِعَ قَرَعاً وهو أَقْرَعُ وامرأَة قَرْعاءُ.
والقَرَعةُ موضع القَرَعِ من الرأْسِ، والقوم قُرْعٌ وقُرْعانٌ.
وقَرِعَتِ النَّعامةُ قَرَعاً: سقَط ريشُ رأْسها من الكِبَرِ، والصِّفةُ كالصِّفةِ؛ والحَيّةُ الأَقرع إِنما يَتَمَعَّطُ شعر رأْسه، زعموا لجمعه السمّ فيه. يقال: شُجاعٌ أَقْرَعُ …………….. وفي الحديث: أَنه لما أَتى على محسِّرٍ قَرَعَ راحلته أَي ضرَبها بِسوْطِه. وقَرَعَ الشيءَ يَقْرَعُهُ قَرْعاً: ضربه. الأَصمعي: يقال العَصا قُرِعَتْ لِذِي الحِلْمِ أَي إِذا نُبِّه انْتَبَه؛ ……… والمِقْرعةُ خشبة تُضْرَبُ بها البغالُ والحمير، وقيل: كلُّ ما قُرِعَ به فهو مِقْرعةٌ. الأَزهريُّ: المِقْرعةُ: التي تضرب بها الدابة، والمِقْراعُ كالفأْس يكسر بها الحجارة؛ ………. والأَقارِعُ: الشِّدادُ؛ عن أَبي نصر. والقارِعةُ من شدائدِ الدهْرِ وهي الداهِيةُ؛ قال رؤبة: وخافَ صَدْعَ القارعاتِ الكُدَّهِ قال يعقوب: القارِعةُ هنا كل هَنةٍ شديدةِ القَرْعِ، ……… وقوله تعالى: ولا يزال كفروا تصيبهم بما صنعوا قارِعةٌ؛ قيل في التفسير: سَرِيّةٌ من سَرايا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومعنى القارعة في اللغة النازلةُ الشديدة تنزل عليهم بأَمر عظيم، ولذلك قيل ليوم القيامة القارعة.
ويقال: قَرَعَتْهم قَوارعُ الدهْرِ أَي أَصابتهم، ونعوذ بالله من قَوارِعِ فلان ولواذِعِه وقَوارِصِ لسانه.

وفي حديث أَبي أُمامة: من لم يَغْز أَو يُجَهِّزْ غازِياً أَصابه الله بقارعةٍ أَي بداهيةٍ تُهْلِكُه. يقال: قَرَعَه أَمرٌ إِذا أَتاه فَجْأَةً، وجمعها قَوارِعُ. الأَصمعي: يقال أَصابته قارعة يعني أَمراً عظيماً يَقْرَعُه. ويقال أَنزل الله به قَرْعاءَ وقارعةً ومُقْرِعةً، وأَنزل الله به بَيْضاء ومُبَيِّضةً؛ هي المصيبة التي لا تدَعُ مالاً ولا غيره.

وفي الحديث: أُقسم لَتَقْرَعَنّ بها أَبا هريرة أَي لَتَفْجَأنَّه بذكرها كالصّكّ له والضربْ. وقَرِعَ ماءُ البئرِ: نَفِدَ فَقَرَعَ قَعْرَها الدَّلْوُ. ………….. والقُرْعةُ السُّهْمةُ. والمُقارَعةُ: المُساهَمةُ. وقد اقْتَرَعَ القومُ وتقارَعوا وقارَع بينهم، وأَقْرَعَ أَعْلى، وأَقْرَعْتُ بين الشركاء في شيء يقتسمونه. ويقال: كانت له القُرْعةُ إِذا قرَع أَصحابه. وقارَعه فقرَعَه يَقْرَعُه أَي أَصابته القُرْعةُ دونه. ……… والقريعُ: المختارُ. والقريع: المَغْلوب. والقَريعُ: الغالب.” اهـ

وقدم بعض اللغويين معنى آخر للقرع فقالوا:
القرع هو ضرب الجسم بآخر بشدة لها صوت. وأطلق القرع مجازا علىالصوت الذي يتأثر به السامع تأثر خوف أو اتعاظ، يقال: قرع فلانا، أي زجره وعنفهبصوت غضب. وفي المقامة الأولى ويقرع الأسماع بزواجر وعظه .

وأطلقت (القارعة)على الحدث العظيم وإن لم يكن من الأصوات كقوله تعالى (ولا يزال اللذين كفروا تصيبهمبما صنعوا قارعة) وقيل تقول العرب: قرعت القوم قارعة، إذا نزل بهم أمر فظيع ولم أقفعليه فيما رأيت من كلام العرب قبل القرآن.

فهنا يُقدم (القرع) على أنه الضرب الشديد المصاحب بصوت, وجعل إطلاقه على الحادث العظيم من باب التبعة وإن لم يكن له صوت! ولست أدري ماذا يفعل في كل الأمثلة التي ذكرها ابن منظور في اللسان.

فلما نظرت في المقاييس وجدت أن ابن فارس يذكر أن مرجع عامة باب ” ق رع” هو الضرب, ولكن هذا المعنى لا يجمع كل المعاني الواردة في الباب ومن أهمها “القرع” المعروف بيننا, فما هو المعنى الجامع لهذه اللفظة إذن؟
الذي يظهر لي أن القرع هو الأمر الشديد المباغت الذي يستأصل مصابه استئصالا شديدا.

فإذا نحن فهمنا (القرع) بهذا المعنى وجدناه شاملا لكل المعاني الواردة في اللسان, وتتبعها فستجدها داخلة تحت هذا المعنى, وأهمها الواردة في كتاب الله تعالى “قارعة أو تحل قريبا من دارهم” فهي داهية مباغتة تنزل بهم عذابا أليما.
إذا فالقارعة هي الأمر الشديد المباغت.
ولكن هذا الوصف قد ينطبق على أشياء عديدة, فهل المراد منه اليوم الآخر كله, فيكون وصفا له, أم أنه وصف لحدث معين فيه؟
كنا قد وضحنا فيما مضى أن الأوصاف الواردة في حق اليوم الآخر هي أوصاف لمواقف معينة فيه وليست أوصافا له كاملا, وقلنا أن يوم الفصل غير يوم الدين وهما غير يوم الحشر, إلخ الأسماء الواردة في حق ذلك اليوم.

أما الاسم الجامع لهذا اليوم فهو اليوم الآخر, وهو الذي يقترن دوما بالإيمان بالله عزوجل, أما باقي الأسماء فهي توصيف لمواقف فيه أو تركيز على أفعال ومعان معينة فيه, لذلك لا نجد آية تقول “إن كنتم تؤمنون بالله وبيوم القيامة” أو أي اسم آخر! ونلاحظ كذلك أن الله تعالى لم يصف اليوم الآخر –في الآيات التي ذكر فيها- بأي وصف أو تحديد, وإنما يذكر هكذا مطلقا, لأنه لو وصف أو حدد لما عاد شاملا لليوم كله! أما باقي الأوصاف “يوم القيامة, يوم الحشر, يوم الدين, الواقعة, الطامة الكبرى, يوم الحساب” فكلها تحدد وتوصف!

فإذا نحن نظرنا في سورتنا هذه وجدنا أن القارعة لم تتخلف عن باقي إخوتها في الوصف, فيُعلم لزاما أنها ليست كل اليوم الآخر بل هي إما وصف لحال فيه أو لفعل فيه.

فإذا كانت القارعة ليست كل اليوم الآخر, فماذا تكون؟
إذا نحن نظرنا في وصف القارعة في هذه السورة وجدنا الرب العليم يقول: “يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش” أما باقي ما ورد في السورة فهو تال لذلك “فأما من …. ” بدليل وجود الفاء. فما هو الشيء المناسب لهذين الوصفين؟

الذي نراه –والله أعلم- أن المراد من القارعة هو الصيحة التي تبعث الناس وتوقظهم في يوم (وقت) الخروج. وللقارئ أن يسأل: ولم اخترت الصيحة تحديدا, لم لا تكون القارعة أي شيء آخر؟
نقول: استخرجنا هذا المعنى من خلال المعاني اللغوية للفظ ومن خلال القرآن نفسه, فالصيحة أمر شديد مباغت مرتبط بصوت. والصيحة تأتي فجأة وهي جد عظيمة, كما أنها صوت فتكون جامعة لمعان القرع.

فإذا نحن تركنا اللغة ونظرنا في السورة الكريمة وجدنا أن القرع ارتبط بالبشر, وكيف أنهم يكونون في ذلك الوقت كالفراش المبثوث, وأن الجبال تكون كالعهن المنفوش. فإذا نحن نظرنا في بعض السور التي ورد فيها ذكر الصيحة وجدنا التالي:
“مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ [يس : 49]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس : 51]
إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس : 53]
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق : 42]
َيوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً [النبأ : 18]”

فإذا نظرنا في سورة القمر وجدنا وصفا مشابها للفراش المبثوث وهو الجراد المنتشر! وفي هذا يقول الله تعالى “يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ”

فنلاحظ في هذه السور أن خروج الناس وانتشارهم بأشكال مختلفة مرتبط بالصيحة أو النفخ في البوق أو الدعوة, وهذا يكون بداهة في أول اليوم الآخر, والذي سماه القرآن الكريم “يوم الخروج”, –ولست أدري لم لم يشتهر (يوم الخروج) كوصف لليوم الآخر؟!

ربنا لأن هذا الوصف بالذات هو أكبر دليل لنا على أن هذا الأوصاف الواردة في حق اليوم الآخر هي أوصاف لأجزاء فيه وليس له كله-, فيكون هذا مرجحا لما نقول به. بل وإذا ذهبنا إلى سورة الحاقة والتي تبدأ بنفس الأسلوب التشويقي المثير, نجدها تذكر بعد تكذيب ثمود وعاد بالقارعة –

ونلاحظ أن هذه السورة هي السورة الوحيدة التي قدم فيها ذكر ثمود على عاد مقترنين (ثمود وعاد) ومفترقين, بذكر حال كل منهما, فذكرت ثمود أولا!- تقول “فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية” ومن المعلوم أن ثمود أهلكت بالصيحة! فيكون هذا مرجحا لقولنا. فمن المعلوم أن الطاغية هي الداهية والأمر الشديد المجاوز للحد, وهي لا تأتي إلا وصفا لموصوف, فلا يوجد شيء اسمه طاغ أو طاغية, بل هناك حاكم طاغ أو أمطار طاغية أو دول طاغية ….. إلخ.

ونلاحظ أن الله تعالى لم يذكر في هذه السورة موصوفا سابقا للطاغية إلا القارعة, فما المانع من أن يكون المراد من ذلك: ” فأما ثمود فأهلكوا ب (القارعة) الطاغية؟ فيكون هذا نصا على أن الصيحة قارعة. وبغض النظر عن هذا, فإذا كانت الصيحة وصفت صراحة في الحاقة بأنها طاغية,

فما المانع من أن توصف في سورة القارعة ب “القارعة”؟
فإذا نحن تتبعنا الأوصاف الواردة في السورة وجدناها تؤيد هذا المعنى, فالله تعالى يقول “يوم يكون الناس كالفراش المبثوث” ففي هذا اليوم –يوم الخروج- بعدما يسمع الناس الصيحة يكونوا كالفراش المبثوث. وتتبع أخي في الله منظر الفراش عندما يبث –أي يتفرق وينتشر- في الهواء كيف يكون حاله!

والتشبيه بالفراش تشبيه عجيب, لا أعتقد أن أحدا شبه به قبل القرآن. وفي هذا التشبيه إشارة بديعة عجيبة لحال الناس في ذلك اليوم, ففي هذا تلميح بديع إلى حالة الحيرة والتردد عند الناس. فأنا عندما كنت أتابع حركة الفراشات وأنا صغير كنت أعتقد أن الفراش متردد!,

-وذلك من خلال هيئة حركته- فبخلاف أن الفراش لا يطير في اتجاه محدد وإنما يطير في اتجاهات مختلفة, فالمرء يشعر بوجود رعشة أو ذبذبة معينة في حركة وطيران الفراش, مما يورثك شعورا بالحيرة والتردد, وكذلك يكون حال الناس يوم الخروج, لا يعرفون إلى أين يذهبون, فلا يأخذون اتجاها معينا بل يضطربون فيتقدمون ويتأخرون ويشرقون ويغربون, وهكذا حيرة وقلق واضطراب. “وتكون الجبال كالعهن المنفوش”

ونلاحظ أن الله تعالى لم يصل هذه الآية بالسابقة, فلم يقل “والجبال كالعهن المنفوش” وإنما قال ” وتكون الجبال كالعهن المنفوش” وفي هذا دليل على أن الأول مرتبط بالقارعة أما هنا فهو يحدث بعدها أو معها ولكنه غير متعلق بها. ف
الله بعدما قال “القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة” قال “يوم …” أي في يوم الخروج عند القرع يكون الناس –بسبب الصيحة القارعة- كالفراش المبثوث- وجاء كذلك بوصف آخر, ولكنه غير مرتبط بالقارعة وإنما بشيء آخر ورد في سورة الحاقة “وحملت الأرض والجبال فدكتا دكتة واحدة” لذلك كرر الكون فقال ” وتكون الجبال كالعهن المنفوش”

ففي هذا اليوم تدك الجبال حتى أنها تصير كالعهن المنفوش, والعهن هو الصوف ذو الألوان, والنفش هو فك الصوف عن بعضه بعضا حتى ينتفش, وهو أجزاء كالذر تدخل من كوة البيت لا تمسها الأيدي. أي أن هذه الجبال العظيمة تدك فتفقد التماسك الموجود بين ذراتها حتى أنها تصير كالعهن المنفوش المتطاير في الهواء, (وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا).

والعلاقة بين الناس والجبال في هذه السورة أنه بالقرع يحدث التفرع والتشتت والتطاير, فنجد أن البشر أصبحوا كالفراش المبثوث والمتطاير في كل اتجاه بلا نظام ولا هدف, وكذلك تكون الجبال –بعد الدك- كالعهن المنفوش فتتطاير في كل اتجاه, فلا يوجد أي ملجأ أو وزر للإنسان يرجع إليه أو يحتمي به, فليس أمام الإنسان إلا الحساب فيحاسبه الله عزوجل على ما قدم, فأما من ……… ” إلخ السورة.

نخرج من هذا بأن المراد من القارعة في أول السورة هو الصيحة وليس كل اليوم الآخر, وكذلك العلاقة بين الصيحة والبشر, فبسبب فزعهم من هذا الصوت الفظيع ينطلقون في كل مكان بلا هدف وهم حائرون مضطربون, وفي هذا اليوم تدك الجبال فلا يوجد أي ملجأ أو مهرب يحتمي به الناس فيحشرون ويُحاسبون كل على حسب عمله. هذا والله أعلى وأعلم.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

حول إنكار العقل الغربي ل “النظام الكبير”!!!

في إحدى اللقاءات المطولة على اليوتيوب عن اللغة وفلسفتها، ذكر المتحدث رأي دو سوسير، القائل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.